فلسطين أون لاين

يكسر قيود الإعاقة بمواهب متعددة

السباحة والطائرة وكرة القدم.. ثلاثية "المصري" بتحدي البتر

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

تتحرك يداه بإتقان لقص شعر أحد الأطفال، حينما وصلت عقارب الساعة في دورانها عند العاشرة وأربعين دقيقة صباحًا، استند إلى مقبض عكاز ورفع بهامته ما تبقى من قدمه اليسرى المبتورة ولا يزيد على 10 سم.

كلما تحرك نقل العكاز معه بإتقان وبمرونة عالية، لم يسبق أن شاهدت شخصًا من ذوي الإعاقة الحركية يسند جسمه إلى مقبض العكاز ويتحرك بليونة عالية لا يخشى من سقوط العكاز وسقوطه معه. مَن في المشهد سعدي المصري (34 عامًا).

بدأ حكايته مع البتر منذ أن كان عمره عامين، وهو بطل فلسطين في السباحة لذوي الإعاقة منذ 20 عامًا توج ببطولات محلية وخارجية عدة، وهداف في كرة القدم ولاعب منتخب كرة الطائرة.

بعد أن انتهى من قص شعر الطفل الزائر، جلس واضعًا العكاز بجانبه، بوضوح ترى من بوابة الصالون الأراضي والأشجار الخضراء بمنطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، ليبدأ حديثه من مرونته في التعامل مع العكاز، بابتسامة عريضة أشرقت على وجنتيه: "أتعامل مع العكاز كأنه قدم طبيعية.. لقد أقلمت نفسي عليه".

"أتدري ..!؟"يقول: "ليلة العيد أظل واقفًا لمدة 24 ساعة في أثناء الحلاقة".

تجبره تلك الابتسامة على تذكر موقف حدث معه عام 2006م في رحلة علاج لتركيب طرف صناعي في ألمانيا: "يومها تعجب الطبيب من مشيتي الغريبة وقال مندهشًا: كيف تفعل ذلك (...) طيلة 15 عامًا لم أرَ أحدًا هكذا، وبعد أن شاهد النتائج الإيجابية للفحوصات الطبية للعمود الفقري لإنسان يعاني البتر منذ 32 عامًا، وكانت سليمة.. أعجبته طريقة المشي الصحية بإسناد الجزء المتبقي من البتر إلى مقبض العكاز".

"حينما لا يكون العكاز بجانبي أشعر بشيء ناقص، لأنني اعتدته فهو ساقي الأخرى".. لقد وطدت السنوات والتجارب العلاقة بين سعدي وهذا الأنبوب المعدني المكسي بطبقة بلاستيكية من الأعلى والأسفل، ربما لا يمثل قيمة عند شخص من غير ذوي الإعاقة، لكن عند شخص يعاني البتر فهو جزء أساسي لا يمكن فقدانه أو تركه أو الاستغناء عنه إلا بتركيب طرف صناعي، وهو غير متوافر لديه منذ سنوات.

عرش سباحة ذوي الإعاقة

في صباح باكر يقف سعدي أمام منزل أحد مدربي السباحة بمنطقته ببلدة بيت لاهيا شمال القطاع، يلعب بمفرده، قبل أن يخرج المدرب من منزله متوجهًا نحو المسبح، ليتراجع بخطوات بطيئة للخلف واضعًا يده على رأس الطفل يخيره: "شو رأيك تتعلم السباحة عندي".

نظر سعدي للأسفل ينظر إلى حال قدمه والأسئلة تتزاحم بداخله: "هل بالفعل أستطيع السباحة بهذا الوضع؟"، لكن الإجابة ذهبت إلى ما يميل القلب: "بالتأكيد أريد التعلم".

مضت خمسة أيام على أول تدريب، لا ينسى تلك اللحظة: "أبهرت المدرس بسرعة تعلمي للسباحة، أتقنت السباحات الأربع: "حرة، ظهر، فراشة، صدر".

يبتسم مرة أخرى وهو على هيئة الجلوس ذاتها على مقاعد الزبائن في صالون الحلاقة، لكن هذه المرة حضرنا طفله الصغير الذي توسط الجلسة: "بدأت المشاركة في البطولات وعلى مدار سبعة أعوام خضت مسابقات مع أشخاص غير مصابين بإعاقة، وحصلت على المراكز الأولى في كل المسابقات التي شاركت فيها".

يتوقف عند بطولة سباحة حصل عليها عام 2002 على مستوى الوطن العربي أقيمت في مصر لذوي الإعاقة، قائلًا: "كانت هذه من أهم البطولات التي أتوج بها، وكنت أحمل رقمًا عالميًّا يؤهلني للمنافسة في الأولمبياد وكأس العالم للسباحة لكن ظروف إغلاق المعابر حالت دون مشاركتي في ذلك وحرمت من الوصول لهذا اللقب".

قبل عامين حصل على المركز الأول في السباقات الأربعة لبطولة سباحة عقدت في غزة، وقبل سبعة أعوام حصل على المركز الأول على مستوى ذوي الإعاقة والرابع على مستوى جميع المشاركين من غير ذوي الإعاقة في سباق نظمته الشرطة الفلسطينية في قطاع لمسافة خمسة كيلو مترات في داخل البحر.

وإلى جانب السباحة يلعب سعدي مع منتخب فلسطين ونادي الصداقة لكرة الطائرة منذ عشرة أعوام، وهو متزوج ولديه أربعة أطفال ويعمل موظفًا في البريد الحكومي في غزة ويتقاضى 50% من راتبه شهريًّا، وهو ما دفعه للعمل في صالون الحلاقة، قائلًا وهو يفرد كفيه للخارج: "كما ترى الوضع صعب والإنسان يبحث عن رزقه، لكن ذلك لا يمنعني من الذهاب يوميًّا للسباحة بعد الفجر في فصل الصيف، وكذلك التدرب على كرة القدم لذوي الإعاقة".

البداية رحلة التحدي

يرحل بصوته وذاكرته بوجه طلق لا تفارقه الابتسامة إلى بداية محطته الأليمة قائلًا: "تعرضت لحادث سير حينما كنت أبلغ من العمر عامين بعدما دهستني شاحنة محملة بأطنان من الرمل، وبدأت تحدي الإعاقة، بعد أن دخلت المدرسة بإرادة وعزيمة".

لم يكن يفهم وقتها الطفل أن هناك فرقًا في ممارسة بعض الرياضات بين ذوي الإعاقة وغيرهم من الناس، كان فقط مولعًا بكرة القدم ويريد أن يركلها، أو يراوغ ويحاكي المشاهد التي يراها أمامه بين الطلبة في المرحلة الابتدائية، لكن ما ترى ليس كما تفعل خاصة إن كنت مبتور القدم.

ما زالت تلك المحطة تسكن ذاكرته التي توقفت عند تلك المحطة خلال حديثنا، يقول: "كنت أنظر إلى الأولاد وهم يلعبون كرة القدم، وبدأت في الانخراط معهم، وشيئًا فشيئًا أجري وراء الكرة، أسقط أحيانًا، وأنهض، ثم أواصل حتى بدأت تعلم الحركات والركض بالعكازين في فترة الطفولة، ووصلت لمرحلة مهارية عالية في كرة القدم".

كان الاتكاء على العكازين في فترة اللعب، أما فترة المدرسة فاعتمد سعدي في طفولته على الطرف الصناعي، فلم يكن ذلك سهلًا على طفل، ففي كل مرة يخرج فيها ويعود إلى المنزل ينزع الطرف على مدار اليوم لأكثر من 15 مرة، في كل مرة عليه أن يلف مشدًّا على الجزء المتبقي من قدمه المبتورة، ثم يمرر الطرف بداخلها ويشبكه بحزام يحيط بخاصرته، متصل برباط آخر بأسفل ركبته.

يجبره الموقف على إخراج تنهيدة ممزوجة بألم تلك اللحظات: "عشت سنوات طفولة صعبة، فلم يكن سهلا تركيب ونزع الطرف، هي معاناة وتحمل وصبر كنت أخوضها، خاصة أنني كنت أنمو ويبقى الطرف ثابتًا (...) بقيت على هذا الحال عدة سنوات إلى أن تغير الطرف، فضلًا عن العرق الذي يتصبب للقدم".

كان صعبًا على طفل صغير في كل مرة يخرج بها من المنزل، جر الطرف غير المرن في حركة المفاصل في الانتقال من محطة إلى أخرى، ثم قرر سعدي ترك الطرف والاعتماد على العكاز حينما بلغ من العمر 14 عامًا، وعام 2006 سافر إلى ألمانيا وحصل على طرف صناعي "هيدروليكي" خفيف الحركة.

كان الطرف الجديد صديقًا جميلًا له، لكنه في الوقت نفسه كان زائرًا سرعان ما غادره وافترق عنه ولم يستخدمه أكثر من عامين ونصف بسبب نموه وبلوغه المرحلة الجامعية.

طوال مراحل عمره كانت السباحة ورياضة كرة القدم عشقًا لا ينتهي في حياة سعدي، ولا يخفي ذلك: "كرة القدم لعبتها مع غير المصابين بالإعاقة، تعاملت على أنني طبيعي غير مبتور".

هداف البطولة

مدرب أمريكي يدعي "سايمون" يجري اختبارات للاعبين من ذوي الإعاقة لاختيار فريق لمنتخب يمثل كل فريق محافظة من محافظات القطاع الخمس، للمشاركة في دوري أعلنت عنه اللجنة الدولية للصليب الأحمر لذوي البتر لأول مرة يُنفَّذ على مستوى الشرق الأوسط لكن على أرض قطاع غزة عام 2017م.

بدأت أول خمس دقائق لاختبار سعدي، الذي بدأ في مداعبة الكرة، وركلها مرة واللحاق بها بعكازين بمرونة ومهارة عالية، ثم ركلها ثانية، المدرب الأمريكي يراقب من كثب، شارفت الدقائق الخمس على الانتهاء، جاء سعدي لتسليم الكرة للمدرب الذي قابله بابتسامة فردت وجهه بعدما دون اسمه في مذكرته الصغيرة؛ وقال واضعًا يده على كتفه: "أنت لاعب عالمي".

بعد مرحلة من الإعداد والتدريب، انطلق دوري كرة القدم لذوي البتر لمحافظات القطاع عام 2019، لفت سعدي بأهدافه انتباه الجميع، وأحرز 9 أهداف منها 5 أهداف سجلها في المباراة النهائية، وفاز فريقه (محافظة الشمال) بالمركز الأول.