فلسطين أون لاين

برحيل "عبد الله" لم تجد "ليزا" ردًّا على رسالتها

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

تتفقد ليزا (18 عامًا) صندوق الرسائل الواردة على هاتفها المحمول، تنتظر ما يطفئ نيران القلق المشتعلة في قلبها، من زوجها عبد الله الذي أوصلها لزيارة عائلتها منذ ساعات الصباح، فهو بالعادة لا يتأخر بالرد عليها.

مرت لحظات.. وبقيت تلك الرسالة التي كتبتها: "دير بالك على حالك.. والله أنا بحبك"، في لحظة خوف وقلق على مصيره بلا رد وبلا جواب؛ تثير غبار القلق في قلبها، معها تتزاحم الأسئلة بداخلها: "لماذا لم يرد"، وهي تنظر من نافذة المنزل تناجي: "يا رب سلمه من أي مكروه".

لكن كانت صواريخ الاحتلال التي استهدفت زوجها عصر الثلاثاء (13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) قد سبقت دعواتها، حتى جاءها خبر استشهاده مساء اليوم ذاته.

في المشفى، تهرول ليزا نحو زوجها، تتمنى أن يكون الخبر كاذبًا قبل أن تجده ممددًا أمامها، وعيناها المذهولتان تواصلان البكاء، وبكت أكثر وهي بالكاد تلتقط أنفاسها! لو باستطاعتها دفنه في قلبها، لم يرد على نداءاتها التي تطالبه بالرد عليها.. أن تعود أنفاسه للنبض مجددًا، أن ينطق بكلمة واحدة، تعاتبه على الرحيل المفاجئ دون استئذان.

اللحظات الأخيرة

بدت ملامح الحزن تكسو وجه زوجة الشهيد عبد الله البلبيسي، بعد أن تركت الدموع أثرها على كل مكان جرت فيه بوجنتيها، قبل أن تجلس على الكرسي البلاستيكي في ساحة المنزل بجوار والدة زوجها وبعض أسلافها الذين حضروا حديثها مع صحيفة "فلسطين".

تهيأت عيونها، أبرقت في لحظة ألم قائلة: "كان عبد الله سعيدا بزفافنا الذي لم يمضِ عليه أكثر من شهرين، تمنى أن يرزق بطفل (...) ليلة استشهاده استيقظت مفزوعة من النوم، قلت له: إنني أشتم رائحة دماء قوية وكأنها مجزرة، هون عليَّ قائلًا: "لا تخافي، لا يوجد شيء، وظل بجانبي".

"ليزا".. ينادي عبد الله زوجته قبل أن تخلد إلى النوم في الليلة ذاتها: "غطيني.. يمكن آخر مرة تغطيني فيها"، كلامه أثار قلقها: "ليش بتحكي زي هيك.. بتخوفني؟"، يعترف بلا تردد مع ابتسامة لم تفارق وجهه: "نفسي بالشهادة"، ثم أوصاها: إذا استشهدت بتاخدي دبلتي لتذكرك بي".

أعادها كلامه إلى حوار سابق بينهما حينما قال لها: "لست سعيدًا بهذه الدنيا، أتمنى الشهادة لأنها ليست لنا"، كانت تأخذ كلامه على محمل الجد، وفي كل مرة يخرج بها من المنزل خلال أي عدوان يشنه الاحتلال على قطاع غزة تظل قلقة إلى أن ينتهي ذلك العدوان.

لم يمضِ على حفل زفافهما أكثر من شهرين، حينما زفت عروسته إليه بعد خطبة وعقد قران استمر عامًا ونصف كان خلالها عبد الله الذي يعمل سائقًا، يبني شقته حجرًا فوق حجر إلى أن أكمل بناء شقة صغيرة جمعت أحلامهما.

ساعة واحدة

قد تعجز الكثير من الكلمات أن تنطق بحروفها حكاية الألم التي تعيشها والدة الشهيد، لا يبدو ذلك من ملابسها السوداء فقط بل من ملامح وجهها التي يسكنها الحزن والقهر، لا تصدق أن ابنها استشهد بعد مغادرته لها بساعة فقط، امتزج صوتها بذلك اليوم المحمل بالألم: "يوم اغتيال القائد في سرايا القدس بهاء أبو العطا، سلم عبد الله سيارته التي يعمل بها لنقل الركاب لصاحبها، وجلس بالبيت، احتسى القهوة معي، وظل يناغشني بالمطبخ كعادته، إلى أن صلى الظهر وعاد للمنزل وظل جالسًا معي حتى صلاة العصر فغادر للصلاة لم تمر أكثر من ساعة حتى جاءني خبر استشهاده".

سكنت للحظات ثم اغرورقت عيناها بالدموع، قبل أن تقول: "عقد عبد الله قرانه قبل عام ونصف، حتى زف في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، الذي اتسع فرحتنا، كان ملازمًا لي إذا مرضت لا يتركني دون الاطمئنان على صحتي عند الطبيب".

سقطت دمعة على قميص الأم خرجت كلماتها بصوتها الحزين: "في المكان نفسه بساحة بيتنا بعزبة بيت حانون شمال القطاع، زف عبد الله عريسًا وحمل على الأكتاف، ولم يمضِ أكثر من شهرين حتى جاءني شهيدًا محمولًا على الاكتاف".

"أحمد الله أنه أعطاه الشهادة".. ما زالت متألمة: "عندما خرج من البيت استأذن مني الانصراف، كنت أتمنى أن يتوقف العدوان ليبقى في البيت".

الرسالة الأخيرة التي لم يرد فيها عبد الله على زوجته لأنه لم يكن على قيد الحياة حينما أرسلتها إليه، دبلة عقد القران، الشقة الفارغة إلا من طيفه وذكرياته وابتسامته، ستبقى تلك الأشياء تدغدغ أحزان زوجة الشهيد، ستنظر والدة عبد الله لساحة البيت ستأخذها ذكرياتها إلى لحظات مراسم الزفاف، ثم ستأخذها أحزانها إلى مراسم تشييعه شهيدًا، سيتكرر هذا المشهد بداخلها كثيرًا.