بحكم معناها ورمزيتها ووظيفتها، يصبح الدفاع عن الأونروا معركة واجبة وملحة ومفتوحة. ومع أن الحقوق الفلسطينية متكاملة ومترابطة، إلا أن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم يبقى مفتاح هذه الحقوق، وأكثرها تعرضًا لخطر التصفية، من أجل تحويل الصراع مع المشروع الصهيوني إلى نزاع مستحدث ربطا بتداعيات عدوان حزيران 1967. وبالتالي إغلاق ملف النكبة الفلسطينية واستحقاقاتها المنصوص عليها في قرارات الشرعية الدولية، وفي المقدمة القرار 194.
ولأن الهجوم على الأونروا أصبح يأخذ منحى أكثر شراسة من أي وقت مضى، فإن المدافعين عنها ينبغي أن يتسلحوا بكل ما لديهم من وسائل وإمكانات سياسية ودبلوماسية وميدانية في مواجهة ما يخطط له التحالف ـ الأميركي ـ الإسرائيلي من سيناريوهات وبدائل عن الوكالة التي قررت الأمم المتحدة أن تبقى برفقة اللاجئين وخدمتهم حتى تنفيذ القرار الأمميبوجوب عودتهم.
تعتبر واشنطن و(تل أبيب) أن شبه الاجماع في الأمم المتحدة على بقاء الأونروا بالوظيفة التي أنشئت لأجلها مجرد أغلبية «تلقائية»، على الرغم من أن بينها أربع دول دائمة العضوية في مجلس الأمن. ومع ذلك، يستمر الشريكان الإسرائيلي والأميركي في مسعى شطب الأونروا وإحالة قضايا اللاجئين الفلسطينيين إلى وكالة الهجرة الدولية، بعد أن يتم لهما تغيير تعريف اللاجئ الفلسطيني، من زاوية شطب توريث صفة اللجوء واقتصارها على من تبقى قيد الحياة من الجيل الذي هُجِّر من فلسطين وقت النكبة في العام 1948.
ولأن معظم أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يقبل بذلك، تلجأ واشنطن إلى سيناريوهات واقتراحات تحقق أهدافها بشأن الأونروا.. ولكن على مراحل. ومن هذه الزاوية يمكن قراءة الدعوات الأميركية ـ الإسرائيلية إلى تقصير صلاحية تفويض الأونروا من ثلاث سنوات إلى سنة واحدة ، كي تحاول واشنطن و(تل أبيب) شطب هذا التفويض وعدم تجديده في التصويت القادم بعد سنة، على خلفية التشكيك بنزاهة إدارة الوكالة ربطا بملفات الفساد التي تم تظهيرها مؤخرا، والتأثير من خلال هذا الملف على الدول المانحة كي تحجم عن تقديم مساهماتها المالية بموازنة الوكالة. وفي سياق هذا كله، يطرح الشريكان الأميركي والإسرائيلي، عن طريق ما يسمى منظمات غير حكومية، بدائل لطريقة عمل الوكالة تحت يافطة «إصلاح الأونروا».
وقد لفت الانتباه أن من يتصدى لهذه المهمة مجموعة من الشخصيات المعروفة بعدائها لحقوق الشعب الفلسطيني وخاصة مدير ما يسمى «مركز دراسات السياسة في الشرق الأوسط» ديفيد بدين، الذي قضى عقودا في الهجوم على الأونروا وما تقدمه من خدمات للاجئين الفلسطينيين، وقد قالت عنه صحيفة «إسرائيل اليوم» العبرية بأنه «من أوائل الذين كشفوا، قبل عشرات السنين، العيوب الحادة في أنشطة الأونروا».
ومؤخرا، قام الأمين العام للأمم المتحدة بتعيين كريستيان ساندروز قائمًا بأعمال المفوض العام للأونروا بعدما تنحّى بيير كرينبول لفترة معينة لم يحددها بيان مكتب الأمين العام، الذي قال: إن «نتائج تحقيق مكتب خدمات الرقابة الداخلية أظهرت بعض القضايا الإدارية التي تتعلق تحديدا بالمفوض العام». ومن الطبيعي أن تتعامل واشنطن و(تل أبيب) مع هذا التنحي ومن ثم التعيين كمؤشر على صحة دعواتهما «الإصلاحية» تجاه الأونروا، وستعملان على إشاعة مناخ من التشكيك حول مآلات المساهمات المالية التي تتبرع بها الدول المانحة إلى موازنة الوكالة وجدوى تقديم هذه المساهمة في الوقت الذي ما يزال فيه التحقيق جاريًا. ومن ثم ستدفعان نحو ضرورة التدقيق في كل محطة أممية يتم فيها تجديد تفويض الأونروا، الذي تسعى أميركا و(إسرائيل) لجعله سنويا. وكان مفيدا في هذا المجال تأكيد مكتب الأمين للأمم المتحدة أن الأونروا « ملتزمة بضمان أن أموال المانحين تستخدم بأفضل كيفية ممكنة من حيث الكفاءة والفاعلية لدعم مهمة الوكالة الحساسة».
وعلى الرغم من حملات التشكيك بوكالة الأونروا التي تقوم بها واشنطن و(تل أبيب)، إلا أن معظم أطراف المجتمع الدولي وخاصة الدول المانحة تدرك أهمية دور الأونروا في خدمة اللاجئين الفلسطينيين، وتدرك في الوقت نفسه تداعيات المس بهذا الدور وما يعنيه بالنسبة اللاجئين الذين ينظرون إلى استهداف الأونروا استهداف مباشر لحقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، لذلك عندما يخوضون معركة الدفاع عن الوكالة فهم يخوضونها باعتبارها إحدى جبهات المعركة الكبرى من أجل العودة، أي أنهم لن يدخروا جهدا للفوز في هذه المعركة، وهذا ما تفهم أطراف المجتمع الدولي أنه وضع المنطقة أمام تطورات غير محسوبة تحت تداعيات غضب اللاجئين الفلسطينيين، كما تدرك هذه الأطراف طبيعة الظروف الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل واقع الاحتلال والحصار واللجوء، وبأن تقديمات الأونروا إليهم على قلتها تساعدهم على تخفيف وطأة الظروف الصعبة التي يعيشونها.
ومنذ مجيء إدارة ترامب اتخذت الحرب على قضية اللاجئين الفلسطينيين مسارا عمليا مباشرا بإجراءات نافذة أبرزها الضغط من أجل إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني بعد قطع المساهمة الأميركية المالية في موازنة الأونروا، وهذا يفترض بداهة أن تواجه الحالة السياسية والشعبية الفلسطينية هذه الهجمة في إطار خطة وطنية موحدة تتجاوز فيها تداعيات الانقسام القائم، حيث المعركة تدور حول حق العودة، أبو الحقوق الفلسطينية، وهو من أبرز مساحات التوافق والوحدة بين الفلسطينيين. وفي هذه المعركة يفترض أن يتم حشد جميع الامكانات المتوافرة، على الصعيدين السياسي والشعبي، وعبر فعاليات واسعة في الميدان. ومن المهم أن تتشكل في هذه المواجهة غرفة عمليات نشطة تتولى التفاعل مع أصدقاء الشعب الفلسطيني ومع الأطراف الدولية الكثيرة التي ترى في مواصلة الأونروا لمهامها ضرورة وفق التفويض الذي أعطيت له عند إقرار تأسيسها في العام 1949، وارتباط هذا القرار بالقرار الدولي 194 الذي ينص في بنده الحادي عشر على وجوب السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم وتعويضهم عما لحق بهم بفعل النكبة.
ولا تحتمل هذه المعركة أية مساومات أو تراجعات أو البحث على حلول وسط. حيث القضية واضحة بجلاء، وكذلك الأمر بما يخص المشاريع التي تسعى لشطب حق العودة مهما تعددت اليافطات والشعارات «الإصلاحية»، فاللاجئون كانوا السباقين في المطالبة بإصلاح كل ما يرونه من عيوب ونواقص في عمل الوكالة، وهم يميزون في الوقت نفسه أن ما يطرح على يد واشنطن وتل أبيب هو تصفية الأونروا وليس إصلاحها، ومن وراء ذلك شطب حق عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم.