لماذا لا نتخذ قرارات في الكثير من المواضيع أو الجوانب الحياتية التي تحتاج إلى حزم الأمر فيها؟ لماذا يتجنب الكثيرون الوقوف مع الحق بشكلٍ علني دون مواربة على العلم أنهم يعلمون علم اليقين أن هذا حق وأن الطرف الآخر هو الباطل؟ لماذا يبذل طفلك كل ما بوسعه في الدراسة ليحصل على المعدل الذي اشترطه عليه لتشتري له حاسوبا خاصا به؟ ما الذي يدفع المجاهد إلى الانطلاق في عملية عسكرية دون أي تردد على العلم أن الاحتمال الأغلب هو عدم عودته سالماً منها؟ وما الذي يجبر فتى في الثانية عشرة من عمره تدخين سيجارة أمام أصحابه برغم كراهة دخانها الذي يكاد يخنق أنفاسه؟
الدافع وراء هذه الأشياء وغيرها الكثير من الممارسات والتصرفات التي نقوم بها في حياتنا هي إما رغبتنا في كسب الشعور بالسرور والسعادة والراحة، أو رغبتنا في إبعاد الشعور بالألم أو الحزن الناتج عن حرماننا مما نرغب ونريد.
يوجد في الدماغ البشري مركز اسمه "مركز الجوائز" وهناك من يسميه بـــِ"مركز السعادة"؛ فعندما نصنع شيئاً نحبه يقوم مركز الجوائز بإفراز هرمون الدوبامين "هرمون السعادة" فيجري في عروقنا ويؤثر في أعصابنا وعظامنا وعضلاتنا وعلى كل خلايا أجسامنا فيشعرنا بالراحة والسرور والاسترخاء؛ وهذا الشعور هو الجائزة التي تقدمها أدمغتنا لنا لأننا فعلنا شيئا إيجابيا.
خلق الله فينا هذه القوة "لذة الكسب" وما تخلفها من سعادة يعقبها شعور بالاسترخاء والراحة والسرور لما لها من أهمية في بقائنا؛ فنحن نبحث عن الطعام عندما نجوع لنشعر بلذة الشبع، ويترتب عليها وصول المواد الغذائية اللازمة لبقاء الجسم صحيحاً.
ووضع الله في الإنسان الرغبة الجنسية التي يبادر لإشباعها، وما يترتب عليها من لذة، لضمان التناسل واستمرار الجنس البشري.
وهناك جوائز تأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة حسب أولويات نفوسنا وأجسادنا؛ بامتلاك النقود يأتي في المرتبة الثانية؛ فعدم امتلاكها لا يشكل خطراً على حياتنا ولكنه يشكل خطراً على شعورنا بالسعادة؛ لهذا نسعى بكل قوانا إلى امتلاك النقود.
ولاحظوا معي كيف تؤثر لذة الكسب في حياتنا اليومية حتى باتت كالمحرك لنا؛ راجعوا أنفسكم وتذكروا الكثير من المواقف؛ ما الذي دفعكم إلى القيام بما قمتم به؟ وتذكروا بعض الأمثلة على قراراتكم التي اتخذتموها؛ ما الذي دفعكم إلى هذا الاختيار وليس الاختيارات الأخرى؟
إنه الرغبة في الحصول في النهاية على لذة الكسب وما يعقبها من سعادة، أو درء ألم الحرمان وما يعقبه من حزن ومشاعر سلبية أخرى؛ لقد باتت هاتان القوتان تتصارعان داخلنا فتؤثران في تفاصيل حياتنا وقراراتنا الني نتخذها.
ولكن يعود إلى الواجهة السؤال الآتي: هل معرفتنا بهاتين القوتين له تأثير على حياتنا؟ أأنتبه إلى أنني عندما أتناول طعامي يعقبه لذة وسعادة أم لم أنتبه؟، أألاحظ أن صيامي في نهار شهر رمضان يسبب لي عصبية لا تنتهي إلا عندما أفطر مساءً وأدخن التبغ الذي اعتدت على تدخينه، أم لم ألاحظ، هل يؤثر ذلك في حياتي؟ وهل ستغير هذه الملاحظات شيئاً في الواقع الذي أعيشه؟
وأنا أقول إن معرفتك بهذه القوى وانتباهك إلى تأثيرها في حياتك وقراراتك ومعاملاتك مع الآخرين تجعلك تسيطر على نفسك ومشاعرك؛ ولن تصبح حياتك حينها عبارة عن فعل وردة فعل بسبب سيطرة هذه القوتين عليك.
وإليك هذا المثال الذي سيثبت لك صحة ما أقول؛ خلال حفر المسلمين للخندق حول المدينة المنورة استعداداً لغزو الأحزاب لنواة الدولة الإسلامية، لاقى المسلمون من الألم والمشقة ما لا قِبل لهم به، ولأن الله علم رسوله ونبهه إلى أسرار النفس البشرية، فعندما ضرب صخرة كبيرة استعصى على المسلمين اقتلاعها لإكمال الحفر، تقدم نبي الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، وضرب بفأسه... فتطاير الشرر من شدة احتكاك الفأس بالصخرة... فعلا صوته بالتكبير قائلاً: الله أكبر فُتحت كسرى؛ وعندما ضرب ضربةً أخرى وتطاير الشرر أيضاً أعاد قوله بنفس الحماس مردداً: الله أكبر فُتحت الروم.
ولو تفكرنا في هذا الموقف لاستغربنا جداً بل لعجبنا وربما شعرنا بشيء من التناقض؛ فقد بات الأحزاب على أعتاب المدينة لغزوها، والمسلمون خائفون على أنفسهم ودينهم ونبيهم؛ محاصرون لا يمتلكون من العتاد والقوة العسكرية إلا القليل.
مُنهكون من الضنك والجوع؛ مضغوطون نفسياً لأنهم يجب أن ينتهوا من حفر الخندق قبل شد الخناق حولهم، ويشاهدون نبيهم صلى الله عليه وسلم تَعِبا وجائعا مثلهم؛ جميعهم في أشد حالات الضعف البشري.
وتراه يضرب بالفأس ويبشرهم بفتح بلاد الروم وبلاد فارس.. أليس هذا شيء عُجابا؟
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه ربه وأحسن تعليمه، أدرك أن ألم الحرمان في اللحظات التي يعيشونها في تلك اللحظة ممكن أن يتبدل إلى لذة وسعادة وكسبا؛ فقط يحتاج إلى القليل من الدعم النفسي والتشجيع والتصبير، فبشرهم في تلك اللحظات بفتح فارس والروم، وذكرهم في ذروة الضعف والألم بالسعادة التي ستتلوها والنصر الذي سيعقب الضعف.
وهذا بالضبط ما أريد منكم أن تتذكروه دائماً؛ فالكثير من التجارب التي نكون بحاجة لأن نخوضها والتي تحمل الكثير من الألم في طياتها ترانا نتحاشى خوضها، ولكن تذكروا... ليس كل ما يسبب الألم سيئا وليس كل ما يسبب السعادة جيدا... فهل ممكن أن تنجب الأنثى دون الكثير من ألم المخاض؟ وهل ممكن النصر واستعادة الكرامة والذود عن الدين والبلاد دون معارك، وشهداء، ودماء؟ وهل ممكن لطالب العلم أن يتفوق دون ألم السهر وقضاء الساعات الطويلة في طلب العلم؟ فخلف الألم تكمن آمالٌ تتحقق وخلف السعادة اللحظية تقف الكثير من الخسارة في بعض الأحيان.
فالأنثى التي لا تريد الإنجاب لتتجنب آلام المخاض، تخسر طفلاً يشعرها بأمومتها كما تخسر أن يخرج من نسلها مجاهداً أو قائداً أو عالماً أو رجلاً صالحاً موحداً بالله. وهكذا أيضاً جميع الأشياء الأخرى التي نتجنبها ونرفضها درءًا للألم المترتب عليها، لأننا نظرنا للألم ولم ننظر للسعادة طويلة الأمد التي تعقب الألم والحرمان اللحظي.
تذكروا: الحياة الدنيا دار امتحان... نحسبها شيئًا كبيرًا ونتناحر لأجلها؛ ولكنها عند الله لا تساوي جناح بعوضة... فابحثوا عما يُرضي الله واعملوا ما يقبله واطلبوا رضاه... لا تقولوا تعبنا أو مللنا؛ لا تبحثوا عن المتاع اللحظي الزائل؛ فما عند الله خير وأبقى.
انظروا إلى الحياة بإيجابية... وابحثوا عن الأشياء الجميلة في كل مكان وداخل كل شخص... فقد تنبت زهرة فواحة وسط الركام؛ وقد تعلو بسمة رائعة ثغر طفل وسط الدموع فتخفف الألم وتمسح الحزن.
هناك في الحياة أشياء كثيرة تستحق أن نحيا لأجلها؛ ليس لأنفسنا فقط وإنما للإسلام ولجميع من حولنا.
فأخلوا الفرح في قلوبكم وقلوب من حولكم واجعلوه جزءًا منكم حتى وإن طال الليل؛ فخلف ظلمة الليل فجر ينتظر البزوغ.