فاجأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس القوى الفلسطينية وأبناء الشعب الفلسطيني ومن منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والسبعين بنيَّته الدعوة لانتخابات فلسطينية عامة، ما ترك تساؤلات كبيرة في الشارع الفلسطيني حول ما يقصده عباس تحديدًا؟ وهل هي انتخابات تشريعية أم رئاسية وتشريعية أم شاملة للمجلس الوطني الفلسطيني؟
واليوم وبعد أن اتضحت رؤية عباس بإجراء انتخابات تشريعية تتبعها انتخابات رئاسية بعد أشهر عديدة دون ذكر لانتخابات المجلس الوطني أو إعادة إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية لتستعيد دورها الحقيقي في تمثيل الشارع الفلسطيني تبرز العديد من التساؤلات.
فلا شك أن الانتخابات هي مخرج مهم ومطلوب للحالة الفلسطينية الراهنة، ولكنها بالضرورة تتطلب توافقا مسبقا بين القوى والفصائل الفلسطينية بما يحقق شراكة وطنية ووحدة الصف الفلسطيني في مواجهة التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية.
فكيف لعباس الذي يتجنب المطالب الوطنية بإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية ويرفض الاعتراف بفشل برنامجه السياسي الذي بدا واضحًا للكل الفلسطيني، ويرفض عقد لقاء يجمع الأمناء العامين للقوى الفلسطينية الفاعلة، كيف له أن يقبل بنتائج الانتخابات التشريعية المقبلة حال فازت بها حماس، وما الضمانات لذلك وهو بالأساس يرفض حتى اللحظة الإقرار لحماس أنها تمثل غالبية المجلس التشريعي بل وذهب إلى حل هذا المجلس لحرمان حماس من حقها الدستوري الذي حازته بالانتخابات التشريعية السابقة.
إجراء الانتخابات يتطلب توافقا فلسطينيا على قانون الانتخابات وشروط الترشح، وهنا نذكر بأن عباس أصدر قرارا بقانون رقم (1) للعام 2007م ألغى بموجبه قانون الانتخابات الذي فازت بموجبه حماس، وفصّل قانونا بمقاس حركة فتح حيث اشترط في القانون الجديد إقرارا مسبقا من المرشحين بأن منظمة التحرير الفلسطينية بوضعها الراهن هي الممثل الشرعي والوحيد والإقرار بوثيقة الاستقلال ما يعني عمليا إقرار أي مرشح مقبل بالتنازل عن 78% من أرض فلسطين والتعايش السلمي مع الاحتلال ومستوطنيه ونبذ العنف والمقاومة المسلحة والاعتراف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
وهو يعني بطريقة أخرى إقرارًا مسبقًا من المرشحين ببرنامج عباس السياسي الذي فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق أيٍّ من أهدافه السياسية سواءً إقامة دولة فلسطينية، أو حتى توفير حياة كريمة لأبناء الشعب الفلسطيني.
ثم إن إجراء الانتخابات يتطلب توافقا مع حركة حماس التي تدير الحكم في غزة، وهو الأمر الذي قفز عليه عباس خلال دعوته للانتخابات دون تشاور مع الفصائل الفلسطينية الفاعلة ما يعني عمليا عدم رغبته في إجراء الانتخابات في غزة وكأنه يدفع حماس لرفض إجرائها كي يحمّلها مسؤولية إفشالها.
من المهم هنا أن نوضح أن دعوة عباس للانتخابات جاءت بعد أيام قليلة من مبادرة فلسطينية قدمتها ثمانية فصائل فلسطينية وازنة من بينها فصيلين مهمين من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وهي تنص على عقد انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني ما يؤكد أن دعوة عباس هي رد عملي على مبادرة الفصائل وكأنه يقول لهم (بلوها واشربوا ميتها) فأنا باقٍ رغمًا عنكم جميعًا.
ربما من الأهمية أيضًا أن نستذكر هنا أن القرار غير الدستوري الذي اتخذه عباس بحل المجلس التشريعي في ديسمبر 2018م جاء ردًّا على مبادرة قدمها رئيس حركة حماس إسماعيل هنية آنذاك حين دعا إلى عقد لقاء عاجل مع عباس لإنهاء الانقسام، واليوم تأتي دعوة عباس للانتخابات ردًّا سلبيًّا ورفضًا واضحًا لمبادرة الفصائل الفلسطينية لاستعادة الوحدة والتي وافقت عليها حركة حماس دون شروط أو ملاحظات.
عباس يدعو اليوم لإجراء انتخابات تشريعية دون أي ضمانات بالاعتراف بنتائجها، ودون أي ضمانات بإجراء انتخابات رئاسية لاحقة، رغم أن القرار بقانون الذي أصدره عام 2007م والذي تحدثنا عنه قبل قليل، ينص على أن مدة رئاسته هي 4 سنوات ولا يجوز تكرارها أكثر من دورتين متتاليتين أي 8 سنوات، متجاهلا أنه يشغل منصب رئيس السلطة الفلسطينية منذ 14 سنة وما زال متمسكًا بهذا المنصب ويرفض تحديد موعد لإجراء انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية.
والنقطة الأهم التي يحرص عباس على تجاهلها هي عقد انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، فعباس الذي يقبع في ظل الاحتلال وسط رام الله واعترف أنه يعيش تحت بساطير جنوده، وأعلن تقديسه للتنسيق الأمني مع المحتل الغاصب يحول دون تمكّن 6.5 ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون في الخارج من ممارسة حقهم الدستوري في انتخاب ممثلين عنهم في المجلس الوطني الفلسطيني، والذي يفتقد إلى الشرعية الشعبية بعد أن تم عقده نهاية إبريل من العام الماضي دون توافق فلسطيني ووسط مقاطعة القوى الفاعلة على الساحة الفلسطينية، بما يعزز تفرد عباس واحتكاره التمثيل الفلسطيني، وبما يؤدي إلى مزيد من التشتت والضعف الفلسطيني الذي يتحمل مسؤوليَّتَه السيد محمود عباس.
نجاح الانتخابات يتطلب تهيئة مسبقة للشارع الفلسطيني، وإقرار بضرورة الشراكة السياسية، بغضّ النظر عن الفائز أو الخاسر في الانتخابات، واتخاذ خطوات فاعلة لإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تضم القوى الفاعلة على الساحة الفلسطينية وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، ثم الذهاب إلى انتخابات شاملة ومتزامنة للمجلسين الوطني والتشريعي ورئاسة السلطة الفلسطينية.
قد يذهب عباس بعيدًا في معركته لتجديد الشرعيات، وقد يعقد انتخابات في الضفة المحتلة دون غزة ودون القدس التي أعلن الاحتلال سيادته عليها، لكنه بكل تأكيد سيخطئ كثيرًا حال ذهب في هذا الاتجاه، فالشرعية التي يوفرها المجتمع الدولي ستبقى منقوصة دون توافر حاضنة شعبية وازنة في الشارع الفلسطيني.
اليوم وبعد أن اتضح رد عباس على مبادرة الفصائل الفلسطينية بخطوته الذهاب إلى الانتخابات التشريعية دون توافق فلسطيني، ربما ينبغي على هذه الفصائل أن تتخذ خطوات فاعلة للضغط على السيد محمود عباس من خلال الإعلان عن الطرف المعطل لإتمام الوحدة الفلسطينية.