هاجت الدنيا وماجت بعد انتشار خبر عدول السلطة عن قرارها الرافض لاستلام أموال المقاصة (الضرائب) من الاحتلال الإسرائيلي بعد خصمه مبالغ قال إنها دُفعت كمخصصات لعائلات الأسرى الشهداء من قبل السلطة بداية شهر نيسان/ إبريل الماضي، وكأن تقهقر السلطة هذا هو الأول من نوعه ولم يسبق لها أن قامت به من قبل في أشكال وأوقات مختلفة.
ولمن لا يعلم فإن قيمة أموال المقاصة تبلغ قيمتها شهريًّا نحو 180 مليون دولار أمريكي، يتم تحويلها إلى خزينة السلطة بناء على اتفاقية باريس التي وقعت بتاريخ 29 إبريل/نيسان 1994، قبل أن تتحول إلى جزء من اتفاقية أوسلو 2 (اتفاق المرحلة الانتقالية للضفة الغربية وقطاع غزة) الذي وقع في 24 و28 سبتمبر/أيلول 1995.
وفي عودة إلى الوراء قليلًا فقط، سنجد أن الأمر يتعدى بكثير مسألة أموال المقاصة، فمسؤولو السلطة وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس سبق لهم أن اتخذوا قرارات "مهمة" في وقتها تتعلق بالعلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، اتضح مع مرور الوقت بأنها مجرد "جعجعة دون طحين"!
وبتتبع بسيط لمسار القرارات "الحاسمة" الصادرة عن المجلس المركزي لمنظمة التحرير في دوراته المتعاقبة منذ عام 2015، وحتى خطاب الرئيس الأخير في الدورة الـ(72) للجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، فإننا نجد العشرات من القرارات "التصعيدية" ضد الاحتلال الاسرائيلي التي بقيت "حبرًا على ورق" حبيسة لـ"حسابات" السيد الرئيس وحكوماته المختلفة!
فالتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية والاحتلال لا يزال مستمرًا واعتراف السلطة بشرعية الاحتلال على الأراضي الفلسطينية ماضيًا، والقطيعة الاقتصادية متأرجحة بين التنفيذ الجزئي ومصالح بعض المتنفذين في السلطة والمنظمة، في الوقت الذي يعلو فيه صوت "القطعية" الذي تصدره رموز السلطة بين محفل وآخر في وجه الاحتلال الذي لا يلقي لصوتها وتهديداتها بالًا، بل وعلى النقيض من ذلك يُمارس ما يحقق مصالحه على الأرض ضاربًا الاتفاقات الموقعة بينهما في عرض الحائط.
ويعود مرجع ذلك كله إلى حالة التفرد في القرار الرسمي من قبل الرئيس عباس وعددًا من المقربين منه من الذين يديرون دفة العلاقة مع الاحتلال الاسرائيلي بعيدًا عن المؤسسات الرسمية والتي من أهمها منظمة التحرير و لجنتها التنفيذية صاحبة الاختصاص الأصيل في التفاوض وإدارة العلاقة مع الاحتلال، إضافةً إلى عزل بقية الفصائل الفلسطينية المركزية ذات الثقل السياسي والحضور في الشارع الفلسطيني كحركتي "حماس" والجهاد الاسلامي اللتين تم استبعادهن من القرارات المصيرية ذات العلاقة بطبيعة الصراع مع الاحتلال وإدارة دفته.
فسلطة يحكمها متنفذون لهم مصالحهم التي تستمر باستمرار العلاقة مع الاحتلال لا يتوقع منهم قطعها ولو كان ذلك على حساب القضية الفلسطينية وشعبها، وما تصريحاتهم المتكررة بهذا الشأن إلا كذر الغبار في العيون.
ويمكن التخمين بأن عدول السلطة عن قراراتها ذات العلاقة مع الاحتلال له علاقة مباشرة بحالة الضعف العربي والانشغال بالقضايا الداخلية على حساب القضية الفلسطينية هذا أولا, وبسعي بعض الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي وهو ما يجعلها عنصرا ضاغطا على السلطة ولربما متآمرا عليها لا حاميا لها أو مدافعا عنها, وهو ما انعكس تلقائيا على الوضع المالي للسلطة وأنهكه في ظل عدم توافر شبكة أمان عربية داعمة ومدافعة عن القضية الفلسطينية, وكل ذلك لا يعد مبررا لقرار السلطة "المتوقع".
الأمر الذي يتطلب من السلطة والفصائل الفلسطينية التحرك الجاد تحت قاعدة العمل الوطني المشترك لإعادة تفعيل القضية الفلسطينية على الساحة العربية خاصة وإعادتها إلى سلم الأولويات مجددا ولن يكون هذا إلا بتوحيد صفوفهم أولا وطي صفحة الانقسام الذي أنهكهم ثانيا والتوافق على برنامج سياسي واحد يجمعهم على نصرة قضيتهم ووضع حد لغطرسة عدوهم ثالثا.