بدأت ألاحظ منذ أكثر من عام – وإن كان متأخرًا جدًا – التزايد الكبير في الدور الذي تلعبه الصين في العالم، وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والتكنولوجي. وأخذت أتابع بشكل متزايد التطورات التي تشهدها الصين، إلى أن قمت في شهر أيلول/ سبتمبر المنصرم بزيارتي الأولى إلى بكين، حيث ألقيت محاضرات في جامعات صينية مرموقة، والتقيت بباحثين من مراكز بحثية. لقد بهرت بما رأت عيناي. الصين عظيمة تحث الخطى سريعًا لتلعب دور الدولة الأقوى في العالم من دون أن تكون دولة استعمارية، ومن دون أن تستجيب للاستفزاز أو الانجرار لمعارك جانبية.
حصلت القفزة الكبرى لدي في نظرتي إلى الصين عندما شاركت في مؤتمر نظمته جمعية يوم القدس، في عمان في أيلول 2018، التي كان يترأسها الفقيد الكبير صبحي غوشة، ابن القدس البار وحامل همومها حتى اللحظة الأخيرة من حياته .وكان من المتحدثين في المؤتمر د. وليد عبد الحي، الذي قدم ورقة عن الصين، مدعمة بالإحصائيات والمؤشرات. وبعد قراءتي لورقته انبهرت بالتجربة الصينية، وأخذت بمتابعة أخبار الصين، ووجدت كم كنت جاهلًا بها وبقدرها العظيم.
جاء في ورقة عبد الحي التي حملت عنوان "السياسة الصينية في الشرق الأوسط" أن الصين شهدت منذ العام 1978 تحولات جذرية أدت إلى تحول تاريخي في دورها، إذ احتلت المركز الأول في معدلات النمو الاقتصادي بين دول العالم، ما أدى إلى صعود الصين من المرتبة 36 في حجم الإنتاج المحلي في العام 1978 إلى المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في العام 2018.
وقال عبد الحي في مقال له بعنوان "2030 .. في بيتنا تنين"، إن إجمالي الناتج المحلي الصيني في العام 1970 كان 91 مليار دولار، مقابل 1.1 تريليون دولار للولايات المتحدة، وفي العام 2017 أصبح الناتج المحلي الصيني 11.8 تريليون مقابل 19.4 تريليون للولايات المتحدة، في حين سيصل في العام 2030 إلى 38 تريليون مقابل 23.5 للولايات المتحدة، وهو ما يعني تزايد البحث الصيني عن مزيد من الأسواق التي سيكون الشرق الأوسط إحداها .
وتتعزز النزعة التجارية الصينية بتفوقها على الولايات المتحدة في التبادل التجاري الثنائي، إذ بلغ العجز التجاري الأميركي مع الصين في العام 2017 أكثر من 335 مليار دولار. هذا في ظل التسارع الكبير في حجم العلاقات التجارية العربية الصينية التي تجاوزت 191 مليار دولار في العام 2017، وبفارق 20 مليار دولار عن العام 2016، إذ أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للعالم العربي بلا منازع.
كما تحتل الصين المرتبة الخامسة في مبيعات السلاح للمنطقة العربية، فضلًا عن أن مشروع "مبادرة الطريق والحزام" سيكلف الصين حوالي 6 تريليونات دولار، وسيعبر 64 دولة برًا وبحرًا على امتداد العالم، بما فيها المنطقة العربية، ما سيجعل المصالح الصينية في المنطقة هائلة.
وإذا انتقلنا إلى ما كتبه ويتحدث عنه د. طلال أبو غزالة، خصوصا في ورقته المعنونة بـ"الأزمة الاقتصادية العالمية 2020 والحرب العالمية الثالثة" سنجد أن الصينيين قادمون، وعلينا أن نسارع في استقبالهم، وإقامة أوثق العلاقات معهم.
إن الأرقام التي يبرزها أبو غزالة عن حجم الاقتصاد الصيني وآفاقه، بالاستناد إلى وثائق صادرة عن مؤسسات دولية وأميركية واقتصاديين كبار على مستوى العالم؛ تظهر تفوق الصين على الولايات المتحدة اقتصاديًا وتكنولوجيًا في العام 2019. وسيظهر هذا التفوق بصورة أوضح في العام 2020، إذ سيصبح الاقتصاد الصيني أكبر من الأميركي، في حين سيبلغ ضعفه في العام 2030، هذا في حال احتُسب على أساس تعادل القوة الشرائية.
وأشار أبو غزالة، نقلًا عن دراسة صادرة عن مركز أبحاث أميركي، إلى أن إجمالي الناتج المحلي الصيني سيصبح 64.2 تريليون دولار في العام 2030، في حين يكون الناتج الأميركي 31 تريليون في المرتبة الثالثة، والهند ستحتل المرتبة الثانية بعد الصين بناتج قدره ب 46.2 تريليون دولار.
وجاء في تقديرات صندوق النقد الدولي للعام 2019 بأن الناتج القومي للصين سيكون 27.4 تريليون دولار، في حين سيكون ناتج الولايات المتحدة 21.4 تريليون دولار.
إن التجربة الصينية تستحق الدراسة رغم اختلاف التقديرات بحجم الاقتصاد الصيني الحالي والمقبل في السنوات القادمة، ومقارنته بالاقتصاد الأميركي، إلا أن هناك إجماعًا عالميًا على أن الصين ستتقدم، إن لم تكن قد تقدمت فعلًا، على الولايات المتحدة، خصوصًا أن الصين ليس وراءها ماضٍ استعماري، فلم تحتل طوال تاريخها أي دولة، ولا تحركها طموحات استعمارية مستقبلية، بل تعارض الهيمنة الأميركية على العالم، وتهدف إلى إرساء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب مبني على الحوار والتعايش والتعاون والعمل المشترك.
ما ميز السياسة الصينية أنها تعمل بهدوء منقطع النظير، وتعمل بصمت وفقًا للحكمة الصينية التي تقول "النهر العظيم يجري بصمت والحكيم لا يرفع صوته". كما يميزها أنها ابتعدت عن الأيديولوجيا كثيرًا واعتمدت البراغماتية والمهنية والانفتاح على الجميع على قاعدة الشعار الذي أطلقه الرئيس الصيني دينغ شياو بينغ، في مؤتمر الحزب الشيوعي في العام 1978 "ليس مهما أن يكون القط أسود أو أبيض طالما أنه يصطاد الفئران".
جعلت هذه السياسة العملية الصين قادرة على إقامة علاقات مع مختلف البلدان، بغض النظر عن خلافاتها وحتى عدائها مع بعضها البعض، مع إيران والسعودية، والمغرب والجزائر، والعرب و(إسرائيل)، حيث تضاعف التبادل التجاري الصيني الإسرائيلي 220 مرة خلال الفترة من 1992-2016، مع أن الصين تتبنى في المجمل سياسة تدافع عن الحقوق الفلسطينية والعربية المقرة في القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ورفضت الاستثمار في المستوطنات، وعارضت الخطوات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد الفلسطينيين .
إنّ العلاقات الفلسطينية الصينية على أهميتها لا تتناسب مع الصداقة التاريخية والمصالح المشتركة، وهذا يعكس عدم اهتمام من القيادة الفلسطينية لأن الرهان على الولايات المتحدة أولًا وثانيًا وعاشرًا وبعد ذلك تأتي الصين وأوروبا وبقية العالم.
لا بد من اتباع سياسة فلسطينية وعربية قادرة على جذب الصين بعيدًا عن (إسرائيل) التي تشكل خطرًا على الأمن والاستقرار والسلام بالمنطقة والعالم، وتفعيل دورها إزاء التوصل إلى حل عادل، على مختلف المحافل والمؤسسات الدولية، من خلال حثها على إعطاء الاهتمام اللازم لتطوير العلاقات العربية الصينية بمجالاتها المختلفة، على المستويين الرسمي والشعبي، ووضع المصالح وأوراق القوة العربية في ميزان العلاقات العربية الصينية.
من الصعب أن يحدث ذلك، أي أن تكون الصين ملكية أكثر من الملك بدون مراجعة جوهرية للموقف العربي، في ظل إقامة بعض العرب علاقات ومعاهدات سلام مع (إسرائيل) رغم عدم التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، وإقامة البعض الآخر علاقات سرية يتم الإعلان المتزايد عنها، وسط حملة لتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية تحت وهم أن (إسرائيل) يمكن أن تصبح صديقة للعرب في مواجهة الخطر الإيراني، وذلك بدلا من الانفتاح وإقامة أوسع العلاقات مع الصين على أمل انخراطها في حلف عالمي يهدف إلى معاقبة (إسرائيل) على عدوانها وجرائمها واحتلالها وتمييزها العنصري، وعلى عدم انصياعها للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
إن التقدم المضطرد في وزن ودور الصين يدفع الولايات المتحدة إلى شن حرب اقتصادية، يحذر البعض من أن تتحول إلى حرب عالمية ثالثة، إذا لم توافق الصين على الجلوس معًا لإعادة إنتاج نظام القطبين المسيطرين على العالم في مرحلة الحرب الباردة، ولكن هذه المرة أميركا والصين بدلًا من الاتحاد السوفييتي، غير أن الصين ترفض ذلك، لأنها لا تريد استعمار العالم، ولا التحكم فيه، وإنما التعاون المثمر مع مختلف الأطراف والبلدان لما فيه خير ومصلحة لجميع الأطراف.
أما الأسئلة عن النظام السياسي في الصين وكيف حقق هذا التقدم في ظل نظام صارم، وعلاقته بالديمقراطية وموقفه من حقوق الإنسان والحريات، وكيفية تحول النظام الشيوعي إلى اقتصاد السوق الاشتراكي المنفتح داخليًا وخارجيًا مع استمرار اعتماد الشيوعية، ومن دون تغيير الكثير من سمات النظام؛ فهي بحاجة إلى محاولة للفهم والإجابة عنها لاحقًا!