لعل اتفاق أوسلو الذي عقد بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي يُسجل في التاريخ الحديث والمعاصر أسوأ اتفاق يمكن أن يُعقد بين ممثلي شعب تحت الاحتلال، وقوة احتلال استعمارية.
26 عامًا مضت على اتفاق أوسلو، كان المفاوض الفلسطيني يظن أنه سيكون مدخلًا لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه وجد نفسه ينشئ سلطة حكم ذاتي توفر الغطاء لاحتلال "خمس نجوم"، تابع مشاريع التهويد والاستيطان ليقضي على حلم "حلّ الدولتين"، وليبقى على سلطة فلسطينية وظيفية تخدم أغراض الاحتلال، أكثر مما تخدم أهداف الشعب الفلسطيني.
إنها الورطة التي تحدث عنها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد حين قال: "إن عرفات ورط شعبه بمصيدة لا مخرج منها، وإنه ألقى بنفسه بين الإسرائيليين والأمريكيين" (جريدة الحياة، 1995/8/21).
نختار في هذا المقال خمس وقفات مع تجربة أوسلو:
أولًا: ضرب وتقزيم المشروع الوطني الفلسطيني:
من أسوأ ما في هذا الاتفاق أن قيادة منظمة التحرير قدمت تنازلًا تاريخيًّا باعترافها بـ"حق (إسرائيل) في الوجود" وشرعية احتلالها 77% من أرض فلسطين، وبذلك أخرجت الأرض المحتلة سنة 1948م من دائرة الصراع والتفاوض، وفي المقابل لم تعترف (إسرائيل) بحق الشعب الفلسطيني فيما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، ولا يوجد في الاتفاق ما يشير إلى أن الضفة والقطاع أراضٍ محتلة، ولا يوجد أي تعهد إسرائيلي بالانسحاب منهما؛ ولا يوجد أي إشارة إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أو إقامة دولته المستقلة، ولو على جزء من فلسطين.
أدى هذا الاتفاق إلى تقزيم المشروع الوطني الذي يهدف إلى تحرير فلسطين، وحصره في إنشاء سلطة حكم ذاتي، تسعى إلى إقامة دولة في الضفة والقطاع، غير أن بقاءها وتطورها مرتبطان برضا الاحتلال وإرادته. وبدا أن القيادة الفلسطينية تعاملت مع الاحتلال كأنه "جمعية خيرية" تسعى بحسن نية إلى الاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني، مع أن المُدْرَك الرئيس للاحتلال الصهيوني أنه استعماري إحلالي توسعي عدواني، ينازعك على هوية الأرض والإنسان، ويسعى إلى سرقة التاريخ، كما يسعى إلى سرقة المستقبل.
وعندما تشكّل الكيان الفلسطيني تحت الاحتلال؛ أصبحت (إسرائيل) عمليًّا هي "الحاضر الغائب" في قرار القيادة الفلسطينية، في حين انشغلت السلطة الفلسطينية بإدارة "الحياة تحت الاحتلال"، لا "إدارة إنهاء الاحتلال".
هذا التقزيم أدى إلى غياب فلسطينيي الخارج عن أجندة القيادة الفلسطينية، وهم الذين يشكلون نحو نصف الشعب الفلسطيني، فتراجع الاهتمام بهم، مع الإمكانات الهائلة التي يمتلكونها.
ومن ناحية ثالثة إن منظمة التحرير نفسها انزوت جانبًا، وتحولت إلى ما هو أشبه بدائرة من دوائر السلطة الفلسطينية، ووُضعت في "غرفة الإنعاش"، لاستخدامها بين حين وآخر لشرعنة ممارسات القيادة الفلسطينية.
ثانيًا: تسوية "مقلوبة":
هذا الاتفاق من التسويات النادرة في التاريخ الاستعماري الذي لا تحسم فيه القضايا الأساسية، وتترك لعملية تفاوضية لاحقة، فعادة ما تحسم أولًا القضايا المرتبطة بانسحاب الاستعمار، والاستقلال وحق تقرير المصير، والسيادة، غير أن كارثة أوسلو أنها انشغلت بتفاصيل وجزئيات الحكم الذاتي، ولم تحسم القضايا الكبرى، مثل: مستقبل القدس، ومستقبل اللاجئين وحق العودة، ومستقبل المستوطنات الصهيونية في الضفة والقطاع، وحق تقرير المصير وحدود الدولة الفلسطينية، واستغلال الثروات الطبيعية، وخصوصًا المياه.
وفي الوقت نفسه ألزمت الاتفاقية الطرف الفلسطيني بوقف أشكال المقاومة المسلحة كافة، وحل كل مشاكله ومتابعة مفاوضاته بالوسائل السلمية فقط. وهكذا تحوّل المشروع الوطني الفلسطيني إلى مشروع بلا أظافر ولا أسنان، وافتقد أي وسيلة من وسائل الضغط التي تجعل الاحتلال مكلفًا وعديم الجدوى، ولأن الاتفاق أخرج مرجعية الأمم المتحدة والقرارات الدولية، ولم يتضمن أي آلية "دولية" ملزمة لتنفيذ الاتفاق؛ أصبح مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني مرتهنًا للإرادة الإسرائيلية، والراعي الأمريكي، "ومن استرعى الذئب فقد ظلم".
وهكذا، اكتسب الجانب الإسرائيلي مزايا إمكانية التسويف والتأجيل إلى "ما لا نهاية"، واستمتع بـ"إدارة" ملف التسوية، في الوقت الذي ينشئ فيه الحقائق على الأرض ليتمكن من حسم القضايا الجوهرية، لمصلحته في نهاية الأمر.
ثالثًا: التأسيس للانقسام الفلسطيني:
هذا الاتفاق أسس لأكبر انقسام في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، وما زالت آثاره العميقة قائمة حتى الآن، إذ استفرد فصيل فلسطيني (حركة فتح) بقرار مصيري، يتضمن تنازلًا تاريخيًّا عن معظم فلسطين، ويؤسس لتسوية سلمية مع العدو، وكان ذلك دون العودة للشعب الفلسطيني، ودون التوافق مع قواه الوطنية الأساسية، حتى بمعارضة قوية من داخل فتح نفسها.
شكلت قوى المقاومة التي رفضت الاتفاق تحالف "الفصائل العشر"، الذي مثَّل على الأرض تكتلًا شعبيًّا وسياسيًّا قويًّا واسعًا على الساحة الفلسطينية؛ وتابع مسار المقاومة، وأصبحت السلطة الفلسطينية تمثل له عمليًّا عقبة في طريق المقاومة المسلحة، أما قيادة المنظمة والسلطة فكانت ترى "أوسلو" طوق النجاة، وخريطة الطريق لإنشاء الدولة الفلسطينية، ولأنها ملتزمة بالوسائل السلمية؛ رأت المقاومة المسلحة إفسادًا وتخريبًا للحلم الفلسطيني بالدولة المستقلة، ومعوّقًا يجب إسكاته وتحييده، وبذلك قمعت المقاومة وطاردتها، ونسقت أمنيًّا مع الاحتلال ضدها.
ومنذ ذلك الوقت تكرس الخلل في إدارة الأولويات والمسارات بين خطي التسوية والمقاومة، وما حدث من انقسام سنة 2007م، أدى إلى سيطرة حماس على القطاع وفتح على الضفة؛ لم يكن إلا أحد تجليات الانقسام الأساسي الناتج عن اتفاق أوسلو.
رابعًا: توسّع تهويدي واستيطاني:
كان من المفترض لأي اتفاقات تؤسس لاستقلال دولة، ولانسحاب المستعمر، أن تؤدي إلى تفكيك المستوطنات اليهودية وانسحاب المستوطنين، غير أن اتفاقات أوسلو لم تلزم الطرف الإسرائيلي بذلك، ولم تُشر حتى إلى وقف بناء المستوطنات، وبذلك تابع الطرف الإسرائيلي هجومه الاستيطاني بطريقة أكثر كثافة وأكثر بشاعة، وأخذ يسابق الزمن لمصادرة ما يمكن مصادرته من أرض وحصر الفلسطينيين في "معازل" و"بانتوستانات" خاصة. فغيَّر الاحتلال وجه القدس، وبنى جداره العنصري، وأصبحت مستوطناته نحو 200 مستوطنة، ونحو 220 بؤرة استيطانية أخرى، وتضاعف عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية من نحو 280 ألفًا إلى أكثر من 800 ألف في مطلع سنة 2019م، لتجد القيادة الفلسطينية أن "حلّ الدولتين" فقد عمليًّا معناه، وأن سلطتها كان أداة "غبية" بيد الكيان الإسرائيلي لإسكات الصوت الفلسطيني والعربي والدولي بحجة وجود مسار للتسوية، وأنها كانت وسيلة "ساذجة" استخدمت لتقطيع الزمن، خدمة للجانب الإسرائيلي، في إنشاء الحقائق على الأرض وابتلاع الضفة الغربية.
خامسًا: سلطة فلسطينية هشة:
تشكَّل البناء المؤسسي للسلطة الفلسطينية وفق نظام ومنظومة "مُعدَّة للفشل"، بمعنى أنها لا تملك الحد الأدنى للنجاح للتطور باتجاه بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
فهذه السلطة عانت هيمنة سياسية وسيادية للاحتلال الذي يتحكم بالحدود، ومداخل السلطة ومخارجها، وحركة الأفراد برًّا وبحرًا وجوًّا، ويتمتع بالقدرة الهائلة على تعطيل العمل والحياة اليومية، والقدرة على ضرب البنى التحتية.
وهي سلطة أسست لفشل اقتصادي بكارثة "بروتوكول باريس".
ودونما إطالة قد أسست سلطة زبائنية استهلاكية ينخرها الفساد، ولا تملك رؤية للانفصال عن الاحتلال، ونحو 80% من إيراداتها تأتي إما من الضرائب (إيرادات المقاصة) التي يجمعها الاحتلال، أو الدعم والمساعدات الخارجية؛ ونحو 85% من واردات السلطة تأتي من (إسرائيل)، في حين يذهب نحو ثلثي صادراتها إلى (إسرائيل)، والصادرات والواردات محكومة بإرادة الاحتلال؛ ومعدل دخل الفرد الفلسطيني أقل من عُشر دخل الفرد الإسرائيلي.
وهي سلطة هشة أمنيًّا؛ فالاحتلال "يسرح ويمرح" كما يشاء، فيحاصر ويقتحم ويعتقل ويسجن ويغتال، ويمنع من السفر أو من الدخول كما يشاء؛ وهو يحمي المستوطنين المعربدين في أحشاء السلطة، ويوفر الغطاء للعملاء، ولديه نحو ستمائة حاجز ثابتة ومتحركة في الضفة.
وهي سلطة منهكة وظيفيًّا في خدمة الاحتلال؛ بالتنسيق الأمني الذي ما زال "مقدسًا" لدى الرئيس عباس، والأجهزة الأمنية التي تستهلك مبالغ هائلة من ميزانية السلطة توازي نحو سبعة أضعاف المعدل العالمي للميزانيات الأمنية في البلدان الأخرى.
***
وأخيرًا، أليست اتفاقات أوسلو بعد ذلك كله "لعنة" على الشعب الفلسطيني وعلى مشروعه الوطني؟!، ألم يصبح الانفكاك منها وعنها أولوية وطنية عاجلة، لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس جديدة؟!
موقع "تي آر تي"