لم يتمكن أي من الحزبين الرئيسيين في كيان الاحتلال من حسم نتائج الاقتراع والتصويت في الانتخابات التي شهدها كيان الاحتلال في 17 أيلول/ سبتمبر. فأي منهما لم يتمكن من حيازة المقاعد الواحدة والستين الضرورية للحصول على أغلبية في البرلمان "الكنيست" المؤلف من 120 مقعداً.
النتيجة الحالية أسفرت عن 54 مقعداً لكتلة تمثل يسار-الوسط بزعامة حزب "أزرق أبيض" و55 مقعداً للكتلة اليمينية بزعامة حزب "الليكود". ونتيجةً لذلك، قد تستغرق عملية تشكيل الائتلاف أسابيع طويلة تكون حصيلتها المرجحة (وإن غير المؤكدة) اتفاقاً لتقاسم السلطة. ما يعني أن عصر السيطرة الحصرية لرئيس الوزراء الأطول خدمة في البلاد، بنيامين نتنياهو، قد انتهى، لكن من السابق لأوانه القول ما إذا كان زعيم قائمة "أزرق-أبيض" بيني غانتس هو الذي سيخلفه.
النتائج الحالية تشير خسارة حزب نتنياهو ثمانية مقاعد بين انتخابات نيسان/أبريل والانتخابات المعادة في الأسبوع المنصرم، وبحسب "القناة 13" الإسرائيلية، يعزو رئيس حزب "الليكود" هذه النتيجة إلى المدن النائية، التي عادة ما تكون معاقل لحزبه، لكن سكانها لم يشاركوا بنفس النسبة التي كان يذهبون فيها إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات السابقة. وقال الشيء نفسه عن مستوطنات الضفة الغربية المحتلة.
أدرك نتنياهو معضلة انخفاض الإقبال في نسبة التصويت يوم الانتخابات، فلجأ إلى خدمة البث المباشر على "فيسبوك" لحث المشاهدين بشدة على الذهاب إلى صناديق الاقتراع. حتى أنه توجّه إلى محطة الحافلات الرئيسية في القدس حاملاً مكبّراً للصوت من أجل الترويج لحملته الانتخابية، مستخدماً الخطاب التخويفي الذي يشتهر به ليحذّر الناس من شتّى الكوارث التي ستصيب (إسرائيل) إذا ما خسر في الانتخابات. ومع ذلك، فإن الناخبين تجاهلوا مناشداته.
الرضا الظاهر الذي يبديه مؤيدو "الليكود" الرئيسيون في اليمين (الناخبون من الطوائف الشرقية) والمستوطنون، قد يكون نابعاً من شعورهم بأن منافسه الرئيسي لن يمثل تحولاً جذرياً لـ(إسرائيل). بعبارة أخرى، بدا أن نتنياهو يصوِّر الانتخابات على أنها معركة أيديولوجية، لكن الجمهور لم ير غانتس، رئيس أركان الجيش السابق، كالمقابل الإسرائيلي لليساري البريطاني جيرمي كوربين.
غالباً ما بدا نتنياهو مستعداً لإلغاء المبادئ الدستورية من أجل الحفاظ على بقائه السياسي والقانوني. وقد استاء الكثير من الناخبين الإسرائيليين حين تعهّد مساعدوه باستخدام البرلمان كوسيلةً لتحصينه من المحاكمة؛ وحين ادّعى دون أي دليل أن الانتخابات كانت مزورة؛ أو عندما انتقل إلى تنفيذ هجوم آخر على غزة دون اتّباع الإجراءات الحكومية المناسبة، مما دفع بالمدعي العام "أفيشاي ماندلبليت" إلى التدخل في الأسبوع الذي سبق الانتخابات. وقد فوجئ كثيرون عندما طالب بسن تشريع طارئ لنصب الكاميرات في محطات الاقتراع في المناطق ذات الغالبية العربية (وقد صوَت البرلمان ضد هذا الإجراء، وانتهى الأمر بأثر رجعي لهذا التكتيك عندما زاد عدد الناخبين العرب).
بعد الانتخابات، قال كلٌّ من نتنياهو وغانتس إنهما يفضلان تقاسم السلطة عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية. وكان هذا الخيار أيضاً محور الحملة الانتخابية لأفيغدور ليبرمان، وزير الحرب السابق الذي فاز حزبه "إسرائيل بيتنا" بثمانية مقاعد، مما منحه توازناً بين قوى كتلتَي غانتس ونتنياهو. وكرّر ليبرمان منذ ذلك الحين أن حكومة الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد للمضي قدماً، وإذا لم تتبلور أي حكومة مماثلة، فسيكون هو في موقع ممتاز يخوّله تحديد المسؤول عن المأزق، والطرف الذي يستحق تأييد حزبه. ومع ذلك، حتى دور "صانع الملوك" معرّض للتعقيدات بالنظر إلى نتائج الانتخابات. وأيا كان الحال، هناك سابقة لقيام حكومة "وحدة وطنية". وقد حدث ذلك في الفترة 1984-1988، عندما حث الرئيس حاييم هرتسوغ الحزبين الرئيسيين في ذلك الحين على كسر الجمود الانتخابي والتعاون من أجل مصلحة البلاد. ووافقا الحزبان على ذلك، مما سمح لقادتهما بتناوب منصب رئيس الوزراء في منتصف الفترة.
لكن تشكيل حكومة وحدة وطنية قد يكون صعباً بسبب الخلاف بين غانتس ونتنياهو حول تركيبتها. فقد كان نتنياهو قد أعرب قبل الانتخابات عن تفضيله تشكيل حكومة يمينية يمكنها تحصينه بشكل أفضل من المحاكمة، في حين دعا غانتس إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تستثني نتنياهو إلى حين انقشاع السحابة القانونية التي تحيط به. ومن المرجّح أن تعزّز النتائج القوية التي حصل عليها غانتس في الانتخابات عزمه على استبعاد نتنياهو.
تصبّ نقطة زمنية لصالح غانتس. ففي الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، سيواجه نتنياهو جلسة الاستماع التي طال انتظارها بشأن ثلاث تهم فساد، ومن المتوقّع أن يُصدر "ماندلبليت" لوائح اتهام بعد ذلك بوقت قصير. وسوف تستقطب هذه الجلسة اهتماماً كبيراً من الرأي العام، وبما أنه من غير المرجح إنجاز مفاوضات تشكيل الائتلاف بحلول ذلك التاريخ، فمن المحتمل أن يكون غانتس قد قدَر أن المزيد من الإسرائيليين سيبدؤون بالتشكيك عما إذا كان ينبغي السماح لسياسي مُدان برئاسة الحكومة.
يؤمن غانتس وتياره أن هذه الساعة الموقوتة ستحث قيادي آخر من حزب "الليكود" على الترشح كزعيم جديد للحزب. ومع ذلك، لا يظهر نتنياهو أي علامات على الاستقالة طواعية، ولـ "الليكود" سجل حافل بالولاء الاستثنائي لقادته، حيث اختار أربعة منهم فقط منذ عام 1948. ما يجعل أعضاء الحزب عموماً يتجنبون أي خطوة تتعلق بإبعاد نتنياهو.
في أعقاب الانتخابات، اتخذ ترامب خطوة لافتة من خلال إبعاد نفسه علناً عن نتنياهو، المرشح الذي دعمه بقوة. ولكن ترامب مشهور بنفوره من الناس الذين يخسرون. وعندما سُئل عما إذا كان قد تحدث مع نتنياهو بعد الانتخابات، قال إنه لم يفعل ذلك، وأشار بوضوح إلى أن العلاقة الأمريكية هي مع (إسرائيل). وهذا التصريح يضعف نتنياهو بصورة كبيرة، وهو الذي قام بتسويق علاقاته الوثيقة مع الرئيس الأمريكي باعتبارها "نقطة بيع" رئيسية طوال حملة الانتخابات.
وبغض النظر عن خطوات إدارة ترامب، من شأن احتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع كل الأطياف أن يعزّز دعم الحزبيْن الأمريكيين لـ(إسرائيل). فمواقف بعض الديمقراطيين من الحكومة الإسرائيلية كانت غير إيجابية نوعاً ما منذ بعض الوقت، ويعود ذلك جزئياً إلى علاقة نتنياهو الوثيقة مع ترامب، وإلى تمكين الكتل المستوطنة والفصائل الدينية المتشددة في السنوات الأخيرة، فضلاً عن خطاب نتنياهو المثير للانقسام أمام الكونغرس في عام 2015. ومع ذلك، لا يزال نتنياهو يأمل في أن تنتشله حنكته من هذا المأزق السياسي العميق وتمكّنه من مواصلة مسيرته السياسية، فهل ينجح "آخر ملوك (إسرائيل)" في تجاوز مطبات المحاكمات والإقصاء القضائي مطلع الشهر المقبل؟ وهل سيتمكن من قيادة كيان الاحتلال مجدداً بعد تزايد الضربات السياسية ضده؟