لا شك أن هيئة تمثل الاحتلال لا يحق لها تمثيل العدالة، وهل يحاكم المجرم نفسه؟!، فالاحتلال بالأساس هو أمر ظالم ويتنافى مع الأعراف والقوانين الدولية، لكن واقع القوة يفرض الكثير من التناقضات في حياة الشعب الفلسطيني.
وإن محاكم الاحتلال مشهود لها بعنصريتها، لكنها في قضية الشهيد الفلسطيني عبد الفتاح الشريف لم تتمتع بالحد الأدنى من التصرفات التي يدعي فيها الاحتلال تمثيل العدالة التي كان يمارس شيئًا منها لخداع الرأي العام العالمي، فبعد عام كامل من المداولات القضائية والسياسية حكمت المحكمة العسكرية الإسرائيلية حكمًا صوريًّا على الجندي قاتل الشهيد الشريف _ويدعى إليئور أزاريا_ بالسجن مدة ١٨ شهرًا، وقد قتله في آذار من العام الماضي وهو جريح ملقى على الأرض، ولم يكن يشكل أي تهديد لا للجندي القاتل ولا لغيره.
الغريب أن نيابة الاحتلال العسكرية طالبت بإنزال عقوبة السجن مدة ٣-٥ سنوات على الجندي القاتل، والقانون الإسرائيلي يحدد عقوبة تصل إلى السجن ١٨ عامًا لكل من يدان بالقتل غير العمد، فماذا ستكون العقوبة لو كانت الجريمة متعمدة كما جريمة هذا الجندي؟، فكل الأدلة القاطعة تؤكد أن الشهيد الشريف قتل عن قصد وإصرار، كما أثبتت ذلك التسجيلات المصورة، وكما أفاد شهود عيان كانوا في الموقع في أثناء ارتكاب الجريمة، وهو ما أكدته المحكمة العسكرية نفسها أنه نفذ عملية القتل بدم بارد.
جريمة قتل الشريف لم تكن أولى جرائم الاحتلال، ويا للأسف!، على ما يبدو إنها لن تكون الأخيرة، فكما يقول المثل من أمن العقاب أساء الأدب، وفي حالة الاحتلال يمكن أن نقول: من أمن العقاب أساء للإنسانية واغتال الطفولة، فهو ارتكب جريمة اغتيال الطفل محمد الدرة عام 2000م وهو في أحضان والده، والطفلة هدى غالية فقدت أفراد عائلتها جميعًا إثر استهدافهم على شاطئ البحر في غزة عام 2006م، وعائلة دوابشة أحرقت وهي نائمة في منزلها، والشهيد الطفل أبو خضير أحرق حيًّا عام 2014م، وغيرها العديد من الجرائم التي ارتكبها المستوطنون وجنود الاحتلال بحق الأطفال الذين استشهدوا في الحروب المتتالية على قطاع غزة، ولا يزالون لم يقصروا في قتل الأطفال.
مع هذا الحكم المخفف سارع محامو الجندي القاتل إلى التصريح أنهم سيقدمون التماسًا إلى المحكمة، والمطالبة بحكم لا يتضمن السجن الفعلي، وسارع الوزير نفتالي بينت ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي وغيرهما من كبار الضباط والمسؤولين إلى المطالبة بالعفو العام عن هذا القاتل والإفراج عنه فورًا، وألا يدخل السجن الفعلي ولو يومًا واحدًا.
هو القضاء الإسرائيلي لا غيره، الذي يشبه كل شيء إلا القضاء، فهو يكيل بمكيالين، ويصنف المتهمين وفقًا لديانتهم وعرقهم، وهو الذي تنازل عن قدسية رسالة القضاء، وقبل لنفسه أن يكون وكيلًا عن الجيش، وعاملًا برغبات استخباراته، وهو الذي ارتضى أن يكون في أسفل درجات سلم العدالة، ووظيفته الحصرية تأمين الخروج الآمن للجناة، بقبول ما يدعون من بطلان، وعلى عكس ذلك حين يتعلق الأمر بحالات كهذه، ولو كان القاتل فلسطينيًّا لكان الحكم المؤبد هو القرار، ثم إن هذا التأييد له والمطالبة بالعفو عنه يشكلان ظاهرة عنصرية واضحة، هي في جانب منها تخليص القاتل من العقاب، وتشجيعه وتشجيع غيره على القتل في الجانب الآخر، وفي كلتا الحالتين إنهم لا يعاقبون المجرم بل يكافئونه، ولا يحققون العدالة بل يؤكدون غيابها.
فجريمة القضاء الإسرائيلي ليست أقل من جرائم القتل التي يمارسها الاحتلال وغلاة متطرفيه، بل أشد خطورة، لكونها تقدم المشروعية لتلك الجرائم بإزالتها صفة التجريم عن أفعال جرمتها القوانين الوضعية الوطنية والدولية، والسماوية، وما حدث في أروقة المحكمة التي انعقدت قبل أيام للنظر في إدانة قاتل الشريف هو مجرد جريمة مكتملة الأركان شارك بها القضاء إلى جانب الجناة، وما جرى يؤكد عدم أهلية وجدية محاكم الاحتلال في إحقاق العدل، ولذا على الجهات الرسمية الفلسطينية العمل على نقل القضية إلى محكمة الجنايات الدولية.