يحدث أن ننسى معلومات درسناها في المدارس والجامعات، لكن هنالك ما لا يمكن لنا نسيانه أو طيه داخل أوراقنا، وكتبنا التي انتهينا من دراستها.
في بداية حياتي الجامعية، لم أكن أجيد التعامل مع الحاسوب، فخصصت الفصل الصيفي بالجامعة لمادة حاسوبية لأستطيع إنجاز مساقاتي الجامعية، كنت أتابع جميع المحاضرات وأحصل على علامات جيدة في الجزء النظري، وعندما كان الدكتور يشرح لنا الجزء العملي ويطلب منا تطبيقه على أجهزتنا، كنت أطبق معه ما يمليه علينا، فكنت أحصل على علامات جيدة في الاختبارات القصيرة، لكن حدث ما لم أتوقعه من نفسي في نهاية الفصل في قاعة الاختبار الخاص بالجزء العملي، عندما حاولت مغادرة القاعة والهروب من مخاوفي وعتمتي التي التفت حولي في أثناء تقديم الاختبار؛ فبمجرد وقوفي عن مقعدي وقف الدكتور أمام الباب وحاول منعي من المغادرة، وقال لي: "هل تريدين الرسوب بالمساق؟، لن أسمح لك بذلك، تذكري أنك قطعت الكثير للوصول إلى هذه اللحظة".
هذا الدكتور لم ينجح فقط بإعادتي لمواصلة الاختبار وحسب، بل نجح بغرس أهم ما يجب أن نتعلمه وندركه في حياتنا، وهي الإنسانية، هو لم يكن يعرف ما يدور بداخلي، ولم يكن يعرف ما كنت أعانيه ذلك الوقت، ولم يكن على دراية بظروفي وأسبابي، ولم ينتظر مني التسويغ له أو الاعتذار، هو لم يدرك ما بداخلي، لكنه عرف جيدًا ما بداخله من جوهرة حقيقية وتعامل معي بإنسانيته، فتعلمت أن كل شخص من الممكن أن يكون معلمًا لك، الأم معلمة، والأب والابن والأخ والأخت والصديق وبائع الحلوى الأمين معلمون، ابنك ربما يكون خير معلم لك، لكن أهم شخص يجب أن تتعلم منه وتجعله معلمًا إنسانًا لك ولغيرك هو "أنت"، لأنك الوحيد الذي يعي جيدًا ما مررت به في هذه الحياة، فهنالك أشخاص يرونك أنانيًّا، لا مباليًا، ضعيفًا، قويًّا، خجولًا وربما جميلًا أو قبيحًا، يرون ابتسامتك ويسمعون صوت ضحكاتك التي من الممكن أن تكون عالية صاخبة لتخفي أصوات آلامك، ينتقدونك بسلبية ويحاكمونك ويحكمون عليك، لكن -يا للأسف- لا أحد منهم يرى النزف الذي بداخلك، ولا أحد يجيد سماع صوت صمتك ولا صراخ قلبك وروحك، فنحن البشر اعتدنا أن نرى ونركز على المظهر الخارجي للأشخاص، ووكلنا أنفسنا بإصدار الأحكام على الآخرين، مع أننا جميعنا يريد من الآخر أن يرى داخله وما يدور خلف مظهره.
أودعكم بأن علينا جميعًا أن نفعل خاصية الإنسانية التي ربما يفتقدها الكثير في هذا الزمن بفعل عوامل تبدل القيم والمبادئ.