يطوي السجن شهرًا تلو شهر من حياة الطفل عبادة عواد، في حين يرقب أقرانه الذين عادوا إلى مقاعدهم الدراسية في غزة ومدن الضفة الغربية، باستثنائه و220 طفلًا آخرين تزجهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلف قضبانها.
عبادة ينحدر من مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، ليس محرومًا من الدراسة فقط، بل أيضًا من رؤية والدته التي جهَّزت حاجيات طفلها الأصغر حذيفة للمدرسة، ولم تتمكن إلا من أن ترسل تحية الصباح لعبادة عبر منشور موقع فيسبوك، دون أن يقرأها، حيث يمنعها الاحتلال من زيارته بذرائع أمنية.
وهذه ليست المرة الأولى التي يزجه فيها الاحتلال خلف قضبانه الصدئة، وربما لا يتخيل إنسان على وجه الأرض أن عبادة قبع في السجن 10 أشهر العام الماضي، إذ تقول والدته: "أسره الاحتلال في يوم الطفل الفلسطيني ولم يكن قد بلغ 16 عامًا".
قضى عبادة ذكرى ميلاده الـ16 في سجن مجدو، وقد قضى كل هذه الأشهر بعدما حكم عليه الاحتلال بالسجن سنة، ولم يمضِ على الإفراج عنه ثلاثة أشهر حتى أعاد أسره.
أضاع الاحتلال على عبادة الالتحاق بالصف العاشر الثانوي، ثم الحادي عشر، ولا يزال يأسره منذ خمسة أشهر، دون محاكمة، بذريعة الكتابة على موقع فيسبوك، وبمزاعم إلقاء الحجارة على قوات الاحتلال.
لكن كل ذلك لم يكن الظلم الوحيد لعبادة، الذي تقول والدته مي الزبن لصحيفة "فلسطين": إن والده أسير محرر، ولذلك حكاية تعج بالتفاصيل.
"حتى قصة ولادته غريبة! أنجبت عبادة إبان اجتياح الاحتلال للبلدة القديمة بنابلس سنة 2002، وخرجت أول سيارة إسعاف من بين الدبابات لأتمكن من التوجه إلى المستشفى، وقد كان لأسر زوجي أثر كبير على عبادة لاحقا في صقل شخصيته وطنيًّا"، تتابع الأم حديثها.
لم يكن عبادة آنذاك يعرف أباه، حينما خرج من السجن، وتأثر بذلك كثيرا، وهو ما أسهم في صقل شخصيته وطنيا.
وقضى أمجد يوسف عواد، والد الطفل، ما مجموعه خمس سنوات في سجون الاحتلال، ولطالما عانى ويلات الأسر.
أما خال عبادة فهو الأسير عمار الزبن (دخل السنة الـ22 تواليا في سجون الاحتلال، وأسر على معبر الكرامة في أثناء عودته من المملكة الأردنية الهاشمية في 11 يناير/كانون الثاني 1998).
ليس ذلك فحسب، بل إن جدة عبادة توفيت في خيمة الاعتصام قبل 15 سنة، عندما كانت مضربة عن الطعام، وتحتسبها العائلة شهيدة.
وذاق عبادة من نفس كأس المرار التي شرب منها معظم أفراد أسرته، عندما اقتحم الاحتلال منزل الأسرة في مارس/آذار الماضي لأسره، وعن ذلك تقول والدته: "كانت طريقة قاسية، فجروا الباب، واقتحموا البيت واقتادوه. كان حدثا مرعبا بحق طفل لم يبلغ 17 عاما من عمره".
يقبع عبادة الآن فيما يسمى "قسم الأشبال"، وقد تعرض عند أسره إلى تعنيف لفظي وجسدي ونفسي أثر فيه وأفقده كثيرا من وزنه.
وتعجرف محققو الاحتلال خلال التحقيق مع الطفل، حتى سألوه عن كتاباته وادعاءات وجوده في أماكن التماس والمواجهات بنابلس.
لكن عبادة لم يكن يمارس في فيسبوك إلا حقه في التعبير كأي فلسطيني، عن رفضه وجود الاحتلال في أرض فلسطين، وعن اعتزازه بخاله وبالفدائيين، لكن محققي الاحتلال أعدوا لها 12 بندًا بهذا الخصوص خلال التحقيق بما يشمل الإعجابات والتعليقات والصور، والكلام لا يزال للوالدة.
حقوق الأطفال
حلَّ 25 أغسطس 2019، وهو الموعد الذي عاد فيه الطلبة الفلسطينيون إلى مدارسهم، وبدلًا من أن يكون عبادة على مقاعد الدراسة، فإنه يقبع في الأسر.
تعكس حشرجة صوت أم عبادة حسرة وغصة أصابتها عندما همت بإيقاظ حذيفة إلى المدرسة، ولم تتمكن من فعل الشيء ذاته مع عبادة.
وانهالت أمنياتها في فيسبوك له بأن يتم دراسته وأن يحالفه التفوق فيها، قائلة: حتى لو حصلت على الثانوية العامة في السجن، بالتأكيد ستكون إنسانا مهما في المستقبل، كما أنت اليوم.
لكن كيف تخفي هذه الأم وجعها وهي لا تستطيع احتضان طفلها وهو ذاهب إلى المدرسة؟ وكيف يمكن لحذيفة أن يستوعب غياب أخيه القسري؟
تقول أم عبادة: إن عبادة كان ملتحقا بمدرسة خاصة نظرا لحالته النفسية التي تأثرت باعتقال أبيه أكثر من مرة، أما حذيفة (15 عاما) فبات وجعه يتعاظم لأسر أخيه.
وحذيفة هو الأخ الوحيد لعبادة، ولهم عدد من الشقيقات الطفلات.
ولا تزال الوالدة ممنوعة من زيارة عبادة بذرائع أمنية، ولم تزُره سوى مرة واحدة فقط خلال فترة أسره العام الماضي.
لكنّ عبادة ليس الطفل الوحيد الأسير في سجون الاحتلال، بل يشاركه الأسى 220 طفلًا (دون سن 18 عامًا) أسيرًا محرومًا من الالتحاق بالعام الدراسي الجديد، الذي افتتح أمس، وحالت القضبان الحديدية بين أجسادهم الصغيرة الضعيفة وبين مدارسهم، ليقبعوا في غياهب السجون، وفق وزارة الأسرى والمحررين بغزة.
ويفيد بيان الوزارة، بأن هؤلاء الأطفال لا يتلقون تعليما على الإطلاق، بل يعلمهم زملاؤهم البالغون لكن دون توافر مناهج دراسية فلسطينية أو حتى أي كتب دراسية أخرى، وأحيانا تمر أشهر عدة دون تعليم.
"سلطات الاحتلال ترتكب بحق الأطفال عشرات الانتهاكات كالتعذيب النفسي والجسدي، واستغلال بنية الطفل الضعيفة، والتركيز على التعذيب والتهديد والتنكيل والترويع أحيانا بالكلاب، واستخدام وسائل غير مشروعة كالخداع والوعود الكاذبة، والمعاملة القاسية، والمحاكم الردعية العسكرية، والقوانين الجائرة، والعقوبات بالغرامات المالية، والعزل الانفرادي، واستخدام القوة"، والحديث هنا لمدير مركز الأسرى للدراسات رأفت حمدونة.
وينتهك أسر هؤلاء الأطفال وحرمانهم من التعليم، الاتفاقيات والمواثيق الدولية، ويتجاهل خصوصيتهم ومتطلباتهم، وهو ما دفع حمدونة إلى دعوة المنظمات الحقوقية الخاصة بالطفل إلى الضغط على الاحتلال لتأمين حريتهم والالتحاق بمدارسهم لتلقي تعليمهم كباقي الأطفال في العالم.
ولا يزال يراود الأمل الطفل عبادة وأقرانه الأسرى، في الحرية وإتمام تعليمهم، لكن والدته تقول: "ليس معلومًا كم ستستغرق قضيته (التي يلفقها له الاحتلال)، في حين يدفعه الطموح بإلحاح للحصول على شهادة الثانوية العامة، لا سيما أنه يلقى تقدير مدرسيه".