فلسطين أون لاين

​المزارعون.. صراع البقاء والتشبّث بالأرض في منطقة يحكمها "الرصاص"

...
المزارعون في تلك المنطقة يعيشون معاناة مضاعفة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

أشجار زيتون ونخيل ومحاصيل زراعية ومساحات خضراء مزروعة بالكوسا والفلفل والباذنجان، والشمام، وأخرى فارغة يملؤها الشعير والقمح في موسم الشتاء، ومزارع نحل وأغنام، حياة أشبه بحياة الريف ستجعلك تقضي يوما ممتعا شرق منطقة "خزاعة" بمحافظة خان يونس، لولا الدخان المنبعث من حركة آليات الاحتلال الإسرائيلي العسكرية التي تفسد جمال المشهد وهدوءه.

إذ تفصلك مئات الأمتار عن أبراج عسكرية إسرائيلية تطلق نيرانها الثقيلة أوتوماتيكيا على كل من يقترب وغالبا أوقات الصباح والمساء، تجاه المزارعين الفلسطينيين، وتنتشر ثكنات القناصة بكثرة وهم يختبئون خلف الرمال.

ما أن تقترب قدماك أكثر من السياج الفاصل مع الاحتلال، تجبر تفاصيل المكان وطبيعته دقات قلبك على الاضطراب، لا يشعر به أي ضيف جديد هنا بل شعور يومي يلازم المزارعين، خوفا من قيام الاحتلال بإطلاق الرصاص عليهم بغتة.

وتقع خزاعة جنوب قطاع غزة، وتبلغ مساحتها نحو أربعة آلاف دونم، بينما يصل عدد سكانها إلى 11 ألف نسمة.

تحت ظل شجرة يتمدد وائل قديح (18 عاماً) واثنان من أبناء عمومته، وقتها كانت الساعة تشير إلى الثانية مساءً، وكانت أشعة الشمس حارقة وكأنّ القرص المتوهج يتعامد على خزاعة، وهذا وقت يخلد فيه المزارعون هنا للنوم بعد انتهاء عملهم في الصباح، ثم يعودون للعمل ما أن تنخفض درجات الحرارة عصراً، لكن أصوات آليات الاحتلال لا تعرف الهدوء.

اصطحبنا وائل لجولة للأراضي الزراعية القريبة من منزله، وهو يقول: "اعتدنا على سماع أصوات إطلاق الرصاص من الأبراج العسكرية الإسرائيلية، نستيقظ كل يوم على أصوات الرصاص".

بعد ثلاث ساعات من الانتظار والتجول تحت ظل الأشجار، قرب الخامسة عصراً بدأت حركة قدوم المزارعين لأراضيهم تنشط، وكذلك زادت حركة الآليات العسكرية الإسرائيلية التي تراها واضحة أمامك، وقناصة يختبئون خلف ثكناتهم في أعلى التلال الترابية.

"معك مية حلوة؟" يسأل الشاب أنس أبو ارجيلة سائق شاحنة بيع مياه محلاة مرت بالمكان، أوقف السائق حافلته وأجابه: "عندي طلبات كثيرة هنا، لأي شيء تريد الماء؟"، فطلب منه تعبئة صندوقه المعدني لرش أوراق الفلفل المزروع على تسع دونمات حتى تحميها من حرارة الشمس أو كما يسميها المزارعون "حرقان"، فهذه الحرارة أتلفت 30 دونم شمام لأحد جيرانهم مؤخراً.

قد ينتهي في لحظة

عند أقرب نقطة لمزارع هنا على بعد نحو 150 متراً من السياج الفاصل، يجلس المزارع ماهر أبو روك (46 عاماً)، قرب صناديق خلايا نحله برفقة طفلته، جاء لهذا المكان بواسطة دراجة نارية، يستظل ببعض شجيرات الزيتون، بالنسبة له هذا المنظر ممتع لكن رغم ذلك "نخاطر بأنفسنا، حياتنا كلها خوف لكن نريد أن نعيش وأصرف على تعليم ابني في ماليزيا" يستهل حديثه لنا.

لا يزال يجلس على صندوق نحل أبيض فارغ من بقايا 45 صندوق نحل دمرها الاحتلال له في الحروب السابقة على غزة، فيقول: "كنت أعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948، ولما أغلقت المعابر لجأت قبل 18 عاماً لمهنة تربية النحل في عدة أماكن منها شرق خزاعة".

وإنكان أبو روك يذهب بنظره بعيدا وهو يرى أرض أجداده الواسعة داخل السياج الفاصل من جهة الاحتلال ولا يستطيع الوصول إليها، فإن نحله يطير لجلب رحيقها مما طابت لها من تلك الأشجار والأزهار وتأتي بـ"رائحة البلاد" له، فتنعكس على ما تجود به من عسلها، لكن في لحظة واحدة، كما حدث معه عدة مرات، قد تسقط قذيفة مدفعية على مزرعة نحله، أو تمر طائرة ترش مبيدات قاتلة تميت كل النحل، وينتهي كل شيء في لحظة.

تقدم لتفقد خلايا النحل فاتحا أحد الصناديق مشيرا نحو فتحة صغيرة أسفل الصندوق تخرج وتعود النحل منه إلى الخلية: "انظر، عندي نحل وإنتاج كثير، لكن الظروف الصعبة لا تساعدنا في البيع، كنت في السابق أبيع كميات كبيرة من العسل، وغالبية زبائني من الموظفين لكن مع صعوبة أوضاعهم الاقتصادية لا أستطيع بيعها".

غرس بالأرض.. وبقاء

خلفه بمائة متر، يمسك الشاب أكرم أبو روك بيده محراثا قديما يغرسه بالأرض، يجره حمار تاركا خلفه خطا بعمق بسيط في الأرض لوضع السماد فيه، ومدها بخراطيم المياه لإلقاء بذور الكوسا فيها. توقف ووضع كفه على الأخرى على يد المحراث الحديدية قائلاً: "نحن هنا في صراع، لكننا نريد العيش فلا يهمنا الرصاص"، بابتسامة غطت وجنتيه: "هي موتة واحدة".

"هدم الاحتلال لنا حماماتنا الزراعية، والشتاء الماضي حرق محصول القمح" يذكر بعضا من هذا الصراع، تحرك بحماره وبدأ الحرث مبديا تمسكه بمهنته: "بعد الدمار بنعمر".

على مقربة منه، يعود معاذ النجار (30 عاما) على عربته يجرها حمار، من أرضه المتقدمة أمام شارع "جكر" بعد أن أنهى وضع السماد في تلك المساحة البالغة ثلاثة دونمات ونصف؛ تمهيداً لزراعة القمح والشعير. "طوال سيري أنظر للثكنات الإسرائيلية والخوف يساورني" يقول.

توحي ملامح وجهه التي حرقت لونها الشمس بشعره المائل قليلا للون الأشقر وبقع أخرى داكنة، طبيعة حياة المزارعين تحت أشعة الشمس ولهيبها، هنا يدفعون ضريبة ليس فقط من ملامحهم التي تسرقها أشعة الشمس بل من حياتهم التي يسرقها الاحتلال، فالنجار لا ينسى ذلك اليوم الذي استشهدت فيه مزارعة كانت تعمل بالقرب منه بعد إصابتها برصاص المحتل الغادر، فرغم أنه ابن هذه الأرض إلا أن الخوف بالنسبة له شيء طبيعي.

يغير تجاه نظره بعد أن نزل من على عربته محدقاً تجاه السياج الفاصل وهو يقول: "لنا هناك خلف السياج 17 دونماً، كل يوم عندما آتي إلى هنا أتمنى الدخول إلى هناك وزراعة أرضنا الأكثر خصوبة".

معركة التجريف والإعمار

إلى الأمام بمائة متر، وصل المزارع مروان أبو روك (44 عاماً) لتفقد أرضه الزراعية التي لا تبعد عن السياج سوى 400 متر، يجلس على حجر تحت ظل شجرة نخيل، في جلسة قلبت المواجع عليه، فهذا المزارع جرف الاحتلال أرضه عام 2005، ودمر محاصيله، وأعاد زراعتها بعد سنوات ودمرها مرة أخرى، وفي 2014 جرفتها آليات الاحتلال.

الشتاء الماضي قامت طائرات الاحتلال برش مواد سامة أدت لقتل 30 صندوقا من النحل، وقبل أشهر ألقت دبابات الاحتلال قذيفة على أرضه سقطت وسط أغنام شقيقه فقتلت معظمها.

هكذا يعيش هذا المزارع وغيره من المزارعين، حياة في منطقة الحاكم فيها لغة الرصاص والغطرسة الإسرائيلية، فهنا الاعتداءات تتم بصورة شبه يومية مع إشراقة الصباح وقبل غروب الشمس، إيذاناً للمزارعين بالانصراف والرحيل، لا يستطيع أي شخص المجيء إلى هنا وقت المساء لري محاصيله حينما يصل التيار الكهربائي لتشغيل مواتير الري.

"هنا صراع وتحد، بأي وقت قد يضيع تعبك والمؤسسات المانحة لا تعوض أي مزارع لا يبعد عن السياج 800 متر" يقول.

يتجه بنظره لبعض الأراضي المجاورة: "كما ترى ما زلت هنا رغم أن بعض المزارعين قرر عدم المخاطرة".

اعتداءات يومية

كيف تتم الاعتداءات عليكم؟ رد: "يطلقون نيرانًا ثقيلة على الأراضي الزراعية بكثافة، أو حولنا وهذه لغة نفهما فننصرف"، "انظر" يتجه بعيونه وهو يشير إلى برج إسرائيلي مثبت عليه رشاش بدا واضحاً، مردفا: "دائما الساعة الثامنة أو التاسعة صباحا يبدأ بإطلاق النار كي ننصرف، وقبل هذا الموعد نستيقظ على إطلاق النار، وبالليل ننصرف فلا مكان لنا هنا، فأي حركة يتم استهدافها بشكل مميت".

أمسك خرطوم المياه وبدأ بري أشجار الزيتون والنخيل متحدثا عن ري المزروعات: "الجدول هنا مضطرب نروي الأشجار والمزروعات يوما بعد آخر، حسب ما يكون هناك وصل للكهرباء صباحا أو كما هذا الوقت قبيل المغرب".

ترك الخرطوم على إحدى الأشجار وصوت خرير المياه يغلب صوت طائرات الاستطلاع التي ارتفعت كثيراً فوق الغيوم، يتجول عند أكوام من الحديد وهي بقايا حماماته الزراعية التي لم يحصل على تعويض لها، وصناديق خلايا النحل، كلها تذكره بالمآسي.

"هذه أرض أجدادي غالية علينا، كما أن هناك ستين دونما داخل السياج لدى الاحتلال"، وقبل أن ينتهي حديثنا اختصر مطالبه: "يجب دعم صمود المزارعين وتوفير منطقة زراعة آمنة" حينها بدأت أشعة الشمس بسحب خيوطها وبدأنا والمزارعين بالانسحاب من المكان مع اقتراب وقت الخطر والموت.