بالتزامن مع توقيع اتفاق أوسلو للتسوية عام 1993م، والاتفاق على ترحيل قضية القدس إلى جدول المفاوضات النهائية مع السلطة الفلسطينية، صعّد الاحتلال الإسرائيلي إجراءاته التعسفية ضد المقدسيين ومدينتهم المحتلة؛ لتفريغها من سكانها الأصليين وجعلهم أقلة؛ استكمالًا لتهويدها وترسيخها "عاصمةً" مزعومة لـ"(إسرائيل) الكبرى".
وعلى طول السنوات الماضية، دأبت حكومات الاحتلال المتعاقبة على الإخلال بالميزان الديمغرافي في مدينة القدس لمصلحة المستوطنين اليهود، فأصبح عددهم فيها يساوي تقريبًا عدد المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، بشن حرب استنزاف حقيقية على المقدسيين، وتشكيل بيئة طاردة لتهجيرهم، وسحب بطاقات "الهوية الزرقاء" منهم.
وفي مقابل هذه الحرب المسعورة على ديمغرافية القدس الفلسطينية، التي ينفذها الاحتلال على مدار عمر احتلال المدينة، انبثقت العديد من الإدانات الصادرة من دول المجتمع الدولي، والمؤسسات الأممية والقانونية، لكن تلك الإدانات وفق ما تؤكده الوقائع لم تكن إلا "حبرًا على ورق"، مع عدم الضغط على الاحتلال لوقف سياساته تجاه السكان المقدسيين.
تطهير للوجود العربي
وبين رئيس مركز القدس الدولي د. حسن خاطر أنه في مطلع السبعينيات تبنت حكومة الاحتلال قرارًا بألا تزيد نسبة السكان الفلسطينيين في القدس، بشطريها الشرقي والغربي، على 20%، ولاحقًا تبنت حكوماته المتتالية قرارًا بألا تزيد هذه النسبة على 12%.
وعلى قدم مخططات وسياسات الاحتلال المنفذة على السكان المقدسيين، خاطر نبه في حديث لصحيفة "فلسطين" إلى أن بناء جدار الفصل العنصري عام 2002م قطّع أوصال شرقي القدس، وأخرج أحياء عن حدود المدينة، وهي الخطوات الأولى التي أخرجت الآلاف جماعيًّا من تعداد سكان المدينة، وكانت بمنزلة طفرة في العدد السكاني المستبعد عن إحصائية المدينة وتعدادها.
وأكد أن ما يجري في هذه المرحلة يمثل فعليًّا عملية "تطهير للوجود العربي الفلسطيني المقدسي" وإحلال للمستوطنين وتعزيز للوجود الاستيطاني، وتفعيل جملة من الضغوط الاقتصادية الهائلة على المقدسيين لإرغامهم على ترك مناطق سكناهم، بقرار ذاتي، أو عزلهم بقوة الجدار العنصري، أو الإبعاد.
وإلى جانب سعي الاحتلال لجعل مدينة القدس ذات وجه يهودي خالص، بتقليص حجم الفلسطينيين، قال خاطر: "إن تخوفات أخرى تدفعه لهذا التقليص لها علاقة بخشيته النمو الفلسطيني ليصبح مستقبلًا أكثر من 55% من إجمالي عدد السكان، وهو ما يحتم أن يكون نتيجة لذلك رئيس بلدية المدينة فلسطينيًّا".
وخلّف التهويد الديمغرافي الذي يشنه الاحتلال على سكان القدس الفلسطينيين، وفقًا لإفادة رئيس مركز القدس الدولي، العديد من ردات الفعل المُدِينة والمستنكرة، غير أنها لم ترسم تغييرًا على الصورة الإجمالية التي يرسمها الاحتلال واقعًا، وأشار إلى هدم 100 شقة دفعة واحدة في حي "واد الحمص" بالمدينة في 22 تموز (يوليو) المنصرم وسط عدم اكتراث دولي "فعلي".
وأشهر القرارات التي أصدرها مجلس الأمن هو القرار رقم (476) في 30 حزيران (يونيو) 1980م، وقد وصف (إسرائيل) بالدولة المحتلة، والأرض التي احتلتها بعد حرب 1967م بالأراضي المحتلة، ووضع القدس في اعتبار خاص، وطالب بحماية البعد الروحي والديني الفريد للأماكن المقدسة في المدينة والحفاظ على هذا البعد، وشجب استمرار (إسرائيل) في تغيير المعالم المادية والتركيب الجغرافي والهيكل المؤسسي في المدينة المحتلة، لكن كل ذلك لم يشكل حماية للمدينة من التهويد والاستئصال الإسرائيلي.
وقال خاطر: "إن كل القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن كثيرة ومتعددة، وترتبط بمدينة القدس، لكنها بقيت "كما الحبر على الورق"، ولم يصل أي منها إلى محطة التنفيذ".
وأشار إلى أن "لعبة المصالح" بين دول المجتمع الدولي ودولة الاحتلال، ونفوذ اللوبي الصهيوني في دوائر صنع القرار العالمي، ووقوف الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع الاحتلال، جعلت القرارات الخاصة بالفلسطينيين مجردة من أي قيمة.
وذكر أن قرارات "يونسكو" -وهي إحدى أذرع الأمم المتحدة- كانت إلى حد كبير منصفة للفلسطينيين، وأكدت بوضوح عدم أحقية الاحتلال في القدس ومقدساتها، وأدانت السياسات التي يقوم بها تجاه الديمغرافية السكانية، لكنها كما لم تكن، بفعل عدم تعامل الاحتلال معها والاعتراف بها، ومساندته أمريكيًّا، مع أنها قرارات ذات قيمة كبيرة.
خطة متدحرجة
منسق اللجنة الوطنية لمقاومة التهويد في القدس خضر الدبس نبه إلى أن خطة الحرب الديمغرافية على سكان مدينة القدس بدأت تمامًا في عهد رئيسة حكومة الاحتلال غولدا مائير، إذ وضعت خطة متدحرجة عملت عليها حكومتها والحكومات المتعاقبة لجعل سكان القدس أقلية مقارنة باليهود المستوطنين.
وقال الدبس لصحيفة "فلسطين": "إن الاحتلال سن قوانين وتبنى سياسات عنصرية قلصت فعلًا من الوجود الفلسطيني في القدس، ولم يعد هذا الوجود يمتلك سوى مساحة 13% فقط من المساحة الإجمالية للمدينة، وذلك بما نفذ من عمليات سحب الهويات، وهدم العقارات، وفرض الضرائب، والحرب الاقتصادية، وإقامة جدار الفصل العنصري، وغير ذلك".
وأكد أن الاحتلال سعى حثيثًا إلى حسم "معركة" الديمغرافيا، بعدما نجح في تهويد المدينة المحتلة جغرافيًّا، وتحقيق غالبية يهودية في المدينة مقابل أقليّة فلسطينية، باستمرار جذب أكبر عدد ممكن من اليهود إليها.
وردًّا على التغول الإسرائيلي والاستنزاف المستمر -لاسيما تجاه السكان المقدسيين- صدرت العديد من الإدانات الدولية، وبعض القرارات في المؤسسات الأممية، المستنكرة لهذا الفعل، حسبما ذكر الدبس، لكنها -برأيه- لم تكن جميعًا ذات أثر واقعي على وجهة (إسرائيل) في معركتها الديمغرافية، التي تتسلح باستمرار بحليفتها واشنطن.
ووفق الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، إن عدد الفلسطينيين في القدس بلغ نحو 435 ألف نسمة نهاية عام 2017م، منهم نحو 281 ألف نسمة يقيمون في شرقي المدينة الذي ضمه الاحتلال إليه عنوة بُعيد احتلاله الضفة الغربية عام 1967م، وأعلن مركز الإحصاء الإسرائيلي أن عدد سكان شرقي وغربي القدس بلغ نحو مليون، منهم 550.100 مستوطن، ونحو 332.600 فلسطيني.