فلسطين أون لاين

​مرة أخرى ... "الرئيس" في متاهته

...
خالد بركات

بَعد إعلان رئيس السلطة محمود عباس "تشكيل لجنة لدراسة كيفيّة وَقف التعامُل مع الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي "غادر" الرئيس "مقره في رام الله المحتلة، ذاهبًا إلى تونس عبر مطار عمّان للمُشاركة في تشييع الرئيس التونسي القايد باجي السبسي، ولا شك أن عباس والوفد المرافق تفقدوا جيدًا "التصاريح الإسرائيلية" في جيوبهم وبطاقات الـ"في آي بي" قبل أن يَصِلوا إلى الحدود الأردنية، أخرجوها ثم أعادوها إلى جيوب معاطفهم الثمينة، مضغوا الهواء وثرثروا.

ولم يَتّخذ محمود عباس قرار "وقف التعامل مع الاتفاقيات الموقعة" في أوقات سابقة كانت أكثر مُواتاة من هذه الأيام، مع تهديداته الكثيرة التي باتت تُضعفنا أكثر أمام العالم، والأهم أمام العدوّ نفسه، فضلًا عن أنها تهديدات أقرب إلى المهزلة.
ولم يتحرّك عباس، وهو الذي دافع عن أوسلو ووقعه بقلمه الشخصي في واشنطن، إلى وقف العمل بالاتفاقات الموقعة حين كان جيش العدو يحشُد ثُلثي قواته على حدود غزة، ويقصف البشر ويُدمر الحجر والشجر في القطاع المحاصر، وفي حروب تكررت فصولها على شعبنا أكثر من مرّة: قصفٌ من الجو والبر والبحر بقنابل الفسفور الأبيض، وأطنان من القذائف الصاروخية والمدفعية سقطت على رؤوس الناس، ارتكب الصهاينة عشرات المجازر ودمروا الأبراج والبيوت والمدارس، ولم نسمع بوقف العمل باتفاقات مُوقعة.
العكس تمامًا حَدَث: المزيد من الخواء والانقسام والشرذمة وتحميل الضحايا والمقاومة المسؤولية عما آلت إليه الأمور، كلما قصفوا غزة استنفرت أجهزة التنسيق الأمني كلّها في الضفة المحتلة.
لماذا لا يُصّر "رئيس دولة فلسطين" على وقف التعامل مع الصهاينة حتى تحرير كل أسير وأسيرة (الأطفال والمرضى على الأقل)، إن كان "لا ينام الليل وهو يفكر في الأسرى" كما يكذب أحد مريديه، وإن كان "مستعدًّا أن يدفع آخر قرش في جيبه لعوائل الأسرى" (وكأنه يدفع من ماله الخاص مثلًا)؟!
لو كان رئيس السلطة يحترم حقًّا موقع الحركة الأسيرة؛ لما أقدَم الصهاينة على سرقة مخصصات الشهداء والأسرى، وما وصلنا إلى هذه المزبلة.
ولم يُشِر "الرئيس" إلى وزير خارجيته وممثله في الأمم المتحدة، ولو مرة واحدة، بدعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك للانعقاد لإدانة ممارسات سلطة السجون، والاستهداف اليومي للحركة الوطنية الأسيرة التي تخوض المعركة تلو المعركة، وتقاتل باللحم الحي على مدار الساعة، ولم يهدد بوقف الاتفاقات انتصارًا للأسرى الذين "يحبهم عباس جدًّا جدًّا" ويكاد يكتب فيهم قصائد الحب والغزل، في حين يقول لسان حال شارعنا المقهور الذي انهار سقف توقعاته: "يا زلمة يفرج عن المعتقلين في سجونه أول، ويخلف عليه".
مَن يُراجع عدد المرّات التي هَدَد وتوعد فيها محمود عباس وفريقه بوقف الالتزام بالاتفاقات التي تورط فيها جمع أوسلو مع الكيان الصهيوني؛ يجدها تجاوزت 60 مرّة، وما يثير الحزن والغضب أكثر ليس هذا العبث السلطوي المُكرر وحسب، بل أيضًا رد فعل "النخبة الفلسطينية" التي هللت "تبارك" و"تبايع" و"تثمن" تصريحات عباس وتعدها "خُطوة في الاتجاه الصحيح"، مواقف مُكررة وبائسة مجترة أصبحت مَحط أسىً وتندّر في الشارع الفلسطيني، تُعيد إلى الأذهان ذاك المثل الشعبي الفلسطيني: "اللي بِجرّبْ المجرّب عقله مخَرّب".
وبعد "قرار عباس التّاريخي" المنسوخ والممسوخ، ماذا حدث بالضبط؟، لا شيء، اللهم تسخين عجلة التطبيع بين جماعة أوسلو والإسرائيليين، إذ هرولت قيادات في حركة فتح وغيرها من "الفصائل الفتحاوية الصغيرة" إلى أستوديوهات الإعلام الإسرائيلي والعربي الرّجعي لتحاور الصهاينة و"تقاتلهم" على شاشات الفضائيات، أعضاء في المجلس الثوري لحركة فتح يجلسون مع عتاة الصهاينة أصبحوا ضيوفًا دائمين على مائدة فضائية (إسرائيل 24)، حسنًا، ألا يدخل هذا في دائرة التطبيع والطحن الفارغ والدَّجل السياسيّ؟!
ولم يجرؤ فريق أوسلو على تلبية دعوة قوى المقاومة واللجنة الوطنية للمقاطعة لوقف وحل "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي"، بل جَعَلها عباس جزءًا من هيئات ودوائر (م. ت. ف) وقدّم لها ميزانية ماليّة وطاقمًا يكلّف الشعب الفلسطيني عشرات آلاف الدولارات، فعل ذلك رغم المطلب الشعبي الفلسطيني، تصفية وحل هذه اللجنة المشبوهة، التي لا شغل لها إلا التطبيع مع أحزاب الكيان وإعلامه ومؤسساته، على حساب الشعب الفلسطيني، بل من جيبه وماله.
إن "التواصل" مع العدو "حلال ومبارك"، أما التواصل مع غزة فحرام ولعنة، غزة هذه يجب مقاطعتها وحصارها حتى ترضخ وتقبل "التمكين" و"السلاح الواحد" ومشروع التنسيق الأمني ... وإلا.
من لا يقوى على حل وتصفية لجنة "التواصل" المشبوهة في (م. ت. ف) التي يقودها محمد مدني في المنظمة؛ بالله عليكم هل سيكون في وسعه وقف العمل باتفاقات: (إعلان المبادئ (أوسلو) 1993م، واتفاق غزة ــــ أريحا 1994م، وبروتوكول باريس الاقتصادي 1994م، والاتفاقية الانتقالية 1995م، واتفاق الخليل 1997م، واتفاقية واي ريفير 1998م، واتفاق شرم الشيخ 1999م، واتفاق المرور والحركة 2005م)، هذا فضلًا عن ملاحق ومعاهدات و"تفاهمات أمنية" أخرى، مثل: "خطة خريطة الطريق" و"تقرير ميتشل" وغيرها وغيرها، وهي اتفاقيات وقعت من خلف ظهر الشعب الفلسطيني دون أي تشريع أو توافق وطني عليها.
محمود عباس وفريقه لم يتركوا فُرصة واحدة إلا دعوا فيها العرب والمسلمين إلى "زيارة السجين"، فتقصموا وصادروا دور "الأسير الضحية"، وأصدروا في السّر والعلن فتوى "وطنية" رخيصة، مفادها "زيارة السجين لا تدخل في حيّز وباب التطبيع"، واليوم يتذّمر فريق التطبيع الفلسطيني الرّسمي في رام الله من كرخانة البحرين، المنبر المنبطح أكثر أمام مستر كوشنير، ويلعنون زيارات التطبيع، لكن المشكلة الكبرى للسلطة الفلسطينية ليس فعل التطبيع ذاته، المشكلة أنه لم يعُّد التطبيع يمُر من طريق السلطة وقنواتها وأزلامها، بعد أن وجد العربي المهزوم طريقًا مُباشرة علنيّة إلى حضن (تل أبيب) دون وساطة فلسطينية.
يُدرك شعبنا أن السلطة الفلسطينية هي الجسر الفلسطيني الرّسمي للتطبيع بين العرب والصهاينة، فهذا دورها منذ تأسيسها، الأمثلة على ذلك كثيرة لا تنتهي ولا حصر لها، حسنًا، ليوقفوا التطبيع في رام الله أولًا حتى نُصدّقهم، حتى يصدقوا أنفسهم على الأقل.
"التنسيق الأمني مُقدّس" يقول محمود عباس ويكررها على رؤوس الأشهاد، الحقيقة أنه لا يمزح، الرجل يعني تمامًا ما يقول، وإذا وجد السلطوي التابع نفسه بين خيارين: قُدسية حق العودة أو قدسية التنسيق؛ فإنه سوف يختار دونما أدنى شك حماية مصالحه ومواصلة العبث والهرطقة والتنسيق الشامل مع العدوّ، لأن هذه هي شروط وجوده وبقاء سلطته، الشروط التي تؤمن امتيازات طبقة فلسطينية وكيلة ترى الحكم الإداري الذاتي المحدود كيانها، ورموزه مقامات عليا يُحرّم قدحها ونقدها.
إن المطلوب اليوم هو الدعوة إلى إسقاط كيان أوسلو الوكيل للاحتلال، إسقاطه جملة وتفصيلًا، في الميادين والشوارع، ومن طريق إعادة إنتاج هذه الإدارة الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة، وإعادة البوصلة مرة أخرى لمشروع تحرري فلسطيني عروبي وأممي أفقدوه كل مرتكزاته وجوهره ومعناه.
وهذا يعني نقل "الحوار" من طاولة الفصائل برعاية المخابرات العربية في القاهرة والدوحة ومكة وغيرها إلى حوار وطني حقيقي والى الفضاء الأرحب داخل الوطن وخارجه، برعاية شعبنا ومقاومته المسلحة، وتحت الشمس.
وعلى قوى المقاومة الفلسطينية أن تتمرد على نفسها وعلى واقعها أولًا، حينها ستقف معها الأكثرية الشعبية الفلسطينية في الشوارع والميادين العّامة، حين تدعو إلى تصفية مرحلة أوسلو والبناء الشعبي الموحد للخلاص الجماعي من قيود وأحابيل أوسلو، هذه الاتفاقات الموقعة يجب دفنها إلى الأبد، هكذا نضمن وقف التعامل معها،
وهكذا فقط تكون المقاومة الفلسطينية -وهي طليعة الشعب المفترضة- قد ذهبت إلى شعبها دون إذنٍ من أحد، لأن الشعب الفلسطيني هو مرجعية كل المرجعيات، وحينها فقط سنقول: هذه خُطوة فلسطينية حُرّة، في الاتجاه الصحيح.