الباجي قائد السبسي، الرئيس التونسي في ذمة الله. الرجل تُوفي عن بضع وتسعين سنة، قضى جلها في العمل السياسي. كان رفيقًا لبورقيبة، وعمل معه، ولم يعمل مع بن عليّ، وأسس حزب نداء تونس، وكان أول رئيس تونسي منتخب مباشرة من الشعب بطريقة ديمقراطية، حيث انتخب المرزوقي من البرلمان. ويقال عن الرجل إنه رجل التوافق، والواقعية السياسية. هذه معلومات عامة عن الراحل، فما العبرة المستفادة من تونس، ومن حياته، ومن موته؟!
استمعت لكل كلمات التأبين والرثاء التي قالها الزعماء: رئيس الجزائر، ورئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس حكومة التوافق الليبية، والرئيس الفرنسي، ورئيس تونس بالإنابة محمد بن ناصر، وكلها تحدثت عن الديمقراطية التونسية، وعن نجاح الثورة التونسية، التي ترجع إلى حكمة قادة تونس، وإلى وعي الشعب التونسي، وقدرة قادة أحزاب تونس على التوافق، والتوازن، وبالتالي كان هناك انتقال سلس للسلطة بعد الوفاة، وهذا قليلا ما يحدث في البلاد العربية، وفي دول العالم الثالث.
تونس دولة صغيرة المساحة قليلة في عدد السكان، ولكنها دولة كبيرة في خبرتها السياسية، وفي واقعيتها السياسية، وكبيرة في ديمقراطيتها الوليدة، التي ولدت مع الثورة على ديكتاتورية بن علي، وقد تفوّقت على نفسها، وعلى دول حولها، حين حكمت الترويكا، وحين أجرت انتخابات حرة جاءت بحزب نداء تونس، الذي ائتلف مع حزب النهضة المعارض له، وكلاهما أسهما بنصيب في إبعاد الجيش عن الحكم، وفي إرساء ديمقراطية تداولية.
حين فشلت الثورة المصرية بتدخل الجيش والخارج، نجحت الثورة التونسية لأنها حيّدت الجيش، ولم تستمع للتدخلات الخارجية. وإذا كان للسبسي دور إيجابي في هذا العطاء فإن لزعيم النهضة وغيره من الزعماء دور مماثل. وعليه نسأل: لماذا لا تستفيد ليبيا ومصر وفلسطين من هذه التجربة الديمقراطية المتدرجة التي شقت طريقها تونس رغم المعوقات؟ مات السبسي ولم يأخذ معه شيئا غير عمله، ولكنه مات وقد اطمأنت تونس لحياة ديمقراطية حقيقية، ولتوافق وطني متصالح مع نفسه ومع الشعب. هذه تونس، وهذا هو الراحل. والحكمة ضالة المؤمن.