قادتني رحلة عمل إلى تشيلي لتغطية أنشطة ثقافية وتراثية فلسطينية، ولمواكبة تحضيرات عقد مؤتمر فلسطينيي دول قارة أمريكا اللاتينية في نوفمبر القادم.
رحلة عمل جديدة ومثيرة استوقفتني فيها العديد من المحطات الخاصة بالفلسطيني المغترب في مناطق بعيدة، أهمها وجود هذه الطاقة الفلسطينية الهائلة المغيبة عن الحضور والتأثير مع ما تملك من إمكانات وقدرات دونما استثمار أو استفادة رسمية منها، مع جاهزيتها واستعدادها لتقديم ما ينفع القضية الفلسطينية في الخارج، بأدوات ووسائل لا يجيدها فلسطينيو الداخل، مع انتظار طال وطال لمسئول يبحث ويهتم ويجيد الاستثمار، ففلسطينيو أمريكا اللاتينية قوة لا يستهان بها، لم يذوبوا أو ينسوا قضيتهم، وحقهم بالعودة وتمسكهم بثوابتهم، ولم يقبلوا أن يكونوا عالة على أحد، وسعوا لحظة وصولهم إلى هذه البلاد لإثبات ذاتهم، والنجاح والتميز والإصرار على أن يكونوا رقمًا صعبًا دون أن يفرطوا بهويتهم وتراثهم وثقافتهم، ودون أن تنسيهم حياة الغربة الاضطرارية العودة والتمسك بحقوقهم الوطنية.
في تشيلي يوجد نحو 350 - 400 ألف فلسطيني، حسب إحصائيات غير رسمية يتناقلها الفلسطينيون هناك، دون أن يتمكن أحد من إثبات هذه الأرقام مع تشكيك بعض بها والقول إنها أرقام مبالغ فيها، ودون أن يكون للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أي دور في توثيق الأعداد الحقيقية للفلسطينيين في تشيلي بوجه خاص وفلسطينيي أمريكا اللاتينية بوجه عام منذ وصولوهم إلى هذه البلاد، وعلى أي حال إن الجالية الفلسطينية في تشيلي أكبر جالية فلسطينية في أمريكا اللاتينية، التي يتوزع في دولها أكثر من 900 ألف فلسطيني قدموا إليها منتصف القرن الثامن عشر بعد نكبة فلسطين.
في تشيلي وكذا دول أمريكا اللاتينية يعيش الجيل الخامس من الفلسطينيين، ولمجيئهم إلى هذه المنطقة في أقصى العالم قصص وحكايات يرويها الأبناء عن آبائهم وأجدادهم، تنبئنا بالإصرار والتحدي اللذين يسكنان الفلسطيني في كل مكان وزمان، وحيثما ارتحل وحل، فمجرد وصوله إلى هذه البلاد عابرًا آلاف الكيلومترات ومخترقًا البحار والقارات معجزة لم يجرؤ أو يقوَ عليها شعب من قبل، بل لم يخطر ببال أحد أن يجازف ليصل إلى هذه البلاد البعيدة بقوارب ضعيفة تخترق أمواج البحار والمحيطات، وترسو في نهاية سفر طويل في موانئ الأرجنتين، ومن هذه البقعة تبدأ حكاية الفلسطيني في رحلة غربة مع المجهول بدأها على ظهور البغال والحمير، حاملًا معه ما تبقّى من متاعه وأوراقه، خلال رحلة مضنية تجاوز فيها جبال الأنديز ليستقر به المقام في تشيلي، ودول لا يعرف عن ثقافتها ولغتها وطبيعة الحياة فيها شيئًا.
يجري على ألسن التشيليين مثلٌ يلخص مكانة وقيمة وتأثير الفلسطيني عندهم: "ثلاثة أشياء لا غنى عنها في تشيلي: السمك والكرة والفلسطيني"، مثل سمعته من أكثر من مسئول وفي أكثر من مدينة تشيلية، والجميل شعور الفلسطينيين وهم يتداولون هذا المثل بالفخر دون أن يملوا من تكراره وانتهاز الفرص لترديده، فهو يعني مدى تأثيرهم الكبير في حياة التشيليين، والسيطرة والنفوذ اللذين يتمتعان بهما، وانتشارهم ووجودهم في كل مناحي الحياة هناك انتشار ليس عدديًا فقط بل كيفيًّا ونوعيًّا، فمجموع التشيليين من أصول فلسطينية لا يتجاوز 5% من عدد السكان، ومعظمهم فلسطينيون مسيحيون جاؤوا من بيت جالا وبيت لحم ورام الله، ومع ذلك بعد وصولهم واستقرارهم هناك شقوا حياتهم، وبنوا لأنفسهم مجدًا لا ينكره أحد، كانت بداية العمل بالتجارة والزراعة وفي أي مجال أتيح لهم، وكعادة الفلسطينيين لم يرتضوا أن يبقوا عمالًا وأجيرين عند غيرهم، فغدوا بعد سنوات من رجال الأعمال وأصحاب المال والنفوذ السياسي والاقتصادي.
التجوال وسط العاصمة التشيلية يثير استغراب أي فلسطيني وعربي، فحي (باتروناتو) يعج بالتجار الفلسطينيين ومحالهم، وأينما توجهت ببصرك تجد صورة الكوفية الفلسطينية تلف الأقصى والقدس والمدن التاريخية كحيفا ويافا، مزينة بعبارات كتبت باللغة العربية تؤكد الحق الفلسطيني وتدعو لعدم التفريط حتى العودة، ولا تستغرب انتشار العلم الفلسطيني يزين واجهات المطاعم الموسومة بأسماء المدن التاريخية وتقدم مأكولات تقليدية تلقى قبول المرتادين إليها من العرب والأجانب، كالشاورما والفلافل والخبز الساخن، وفي أماكن أخرى ستدهشك لائحة الطعام المقدمة إليك إذ تتيح لك اختيار أطعمة بيتية بالنكهة الشعبية، كالملفوف والمحاشي بأنواعها وورق العنب والمقلوبة، وغيرها من الأطعمة التراثية الفلسطينية التي تشعرك بأنك في فلسطين.
كنت أتابع شأن الفلسطينيين في تشيلي بحالة من الفخر والاعتزاز، ممزوجة بالدهشة والاستغراب من هذا الفلسطيني، الذي لم تَحُل النكبة وظروف الحياة القاسية في الغربة والبعد عن الأهل والوطن دون أن ينجح ويتفوق ويثبت ذاته في كل ميدان، ولذلك برزت أسماء الفلسطينيين المؤثرين والموهوبين والملهمين في تشيلي في السياسة وكرة القدم والتنس والفن والشعر والمال والأعمال وفي كل الميادين، بعضٌ ممن التقيناهم تحدثوا عن سيطرة التشيليين من أصول فلسطينية على نحو 70% من اقتصاد تشيلي. ويستذكر الفلسطينيون هناك _مثلًا_ "سلفادور سعيد" الذي يعد واحدًا من أثرى أثرياء تشيلي والقارة اللاتينية، يمتلك مشاريع ضخمة في معظم دول أمريكا اللاتينية، حيث تتنوع استثماراته في مجالات مختلفة، ولاحقًا اشترى نادي (بلاستينو) أحد أشهر وأفضل النوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية في العاصمة التشيلية، يرتاده الفلسطينيون والتشيليون ويتوسط عاصمتهم سانتياغو.
ويبرز النواب التشيليون من أصول فلسطينية أشهر قوة في البرلمان تجتهد إلى جانب مهامها الداخلية من أجل فلسطين، وتسخر إمكاناتها لدعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وتعمل على ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة ومحاكمتهم، وظهر دورها بالمشاركة في صياغة مشروع قرار مجلس الأمن (2334) الذي أدان الاستيطان، يتقدم هؤلاء النواب النائب "فؤاد شاهين" رئيس أكبر كتلة برلمانية، والنائب "فرانسيسكو شهوان" مرشح الرئاسة القادم، وقد تولى العديد من المناصب السياسية، أهمها نائب رئيس الجمهورية وعضو مجلس الشيوخ التشيلي.
يرفع الفلسطينيون رؤوسهم بهذه الإنجازات التي لم تنسهم أصولهم، ولم تلههم عن العمل من أجل بلدهم وحقوق شعبهم، ومع كل ما يحمله الفلسطينيون من شوق وعمل وجهد، ومع كل ما يملكونه من إمكانات وطاقات واستعداد للعمل حيثما هم يعانون كباقي فلسطينيي الخارج الإهمال والتهميش والإقصاء والاستثناء في تحمل مسئولياتهم والنهوض بواقعهم، ما يعزز انتماءهم لأرضهم وشعبهم، فالفلسطينيون هناك يتمنون وجود مؤسسات رسمية تعمق حضورهم في المشهد الفلسطيني الداخلي، وتستفيد من إمكاناتهم المتنوعة، يضاف إلى ذلك إهمال الإعلام الفلسطيني الرسمي والخاص لنقل واقع حياتهم، وتأكيد أنهم جزء أصيل من نسيج فلسطيني ممتد في أمريكا اللاتينية لم تقطع أواصره آلاف الكيلومترات.
ومع وجود السفارات الفلسطينية في دول أمريكا اللاتينية، والدعم غير المحدود من حكومات ورؤساء هذه الدول للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وغياب الوفاء لهذه الدول في إعلامنا ولدى سياسيينا الذين قصروا في توعيتنا جهدهم من أجلنا؛ مع كل ذلك إن استمرار عمل هذه الدول لفلسطين لم يتوقف بل يستمر بإبداعات تستحق الثناء، فقبل أسابيع أطلقت مجموعة فلسطين في البرلمان التشيلي حملة دولية لمطالبة بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور في ذكراه المئوية، ووافقت على إطلاق تجمع برلمانيي دول أمريكا اللاتينية من أجل فلسطين، ودعت إلى العمل من أجل رفع الحصار المفروض على قطاع غزة.
ومع هذا الإهمال الفلسطيني إعلاميًّا وسياسيًّا أخذ فلسطينيو تشيلي زمام المبادرة في التعريف بهم، وبأدوارهم، وقيمة حضورهم ووجودهم، وتمسكهم بأرضهم، واعتزازهم بفلسطينيتهم، وانتمائهم لأرضهم المقدسة بالعمل على إطلاق أول مؤتمر شعبي لفلسطينيي أمريكا اللاتينية، سيعقد في تشيلي مطلع نوفمبر القادم، سيشكل عنوانًا لهم، ومنبرًا وطنيًّا مهمًّا سيلفت الانتباه إلى هذه الجالية الكبيرة المغيبة والمهمشة.