فلسطين أون لاين

​العكاز ليس مصيرهم.. بهذا تتغير نظرة المجتمع نحوهم

مكفوفون: الكاراتيه "عين ثالثة" لنا نرى فيها الثقة والقوة

...
الطفل محمد مهاني وهو يمارس الكاراتيه
غزة - هدى الدلو

لتقف أمام خصمك في مباراة الكاراتيه، فإن هذا يتطلب منك أن تجعل جميع حواسك رهن التركيز، لمتابعة تحركات وطريقة تسديده للضربات، ولكن كيف لو كان الممارس لهذه الرياضة فاقدًا لنعمة البصر، ويتحرك بنور البصيرة.. بقلبه المرتجف من الخوف، ينتظر سماع صفارة مدربه معلنًا بدء مباراة حاسمة، فينصت استعدادًا لتسديد الضربات تارة، ولصدَّ ضربات زميله تارة أخرى، مستمعًا لأنفاس الخصم لمعرفة مكان وجوده في أي اتجاه، وثم يبدأ بتنفيذ ما تعلمه وتلقاه من حركات قتالية لهذا النوع من الرياضة، قد يبدو لك –عزيزي القارئ- الأمر مُعقدًا وصعبًا بأن يخوض غمار المباراة كفيف، لكن هل الأمر بالنسبة لهذه الفئة كذلك؟

عززت ثقته

"في يوم المباراة أكون على أعلى درجات الاستعداد في الوعي والإنصات، ليتسنى لي توجيه الضربات وتسديدها"، الطفل محمد مهاني (14 عامًا) الذي حُرم من نعمة البصر منذ صرخته الأولى الذي أعلن فيها قدومه للحياة، بسبب خطأ طبي لازمه طيلة حياته.

ينصت الطفل محمد مهاني جيداً استعداداً لصد ضربةٍ من زميله تنفيذاً لما تلقاه في أكاديمية الألعاب القتالية على مدار نحو ثلاثة أسابيع.

قبل عامٍ من الآن، تم ترشيحه من قبل مدرسته لخوض غمارِ هذه الرياضة، وبتشجيعٍ من والديه، ركبَ أمواجها، وتذللت أمامه الصعاب، فأصبح ممارسًا لها بشكل دائم، ولم يتخلف في يومٍ ما عن التمرين الصباحي، كما لم تمنعه إعاقته البصرية من إتقان عزف العود.

يقول الطفل مهاني: "لطالما حلم ذوي الإعاقة في ممارسة الحياة كبعض أنواع الرياضة.. الكاراتيه كان حلمي منذ سنوات، لكن نظرًا لظروفي الصحية لم أجرؤ على طلب الانضمام إلى أن تم ترشيح اسمي من إدارة المدرسة".

وأضاف: "كانت لهذه اللعبة بصمة مميزة على شخصيتي فقد عززت ثقتي بنفسي إلى جانب أنها منحتني القوة البدنية، وكسرت حاجز الخوف في مواجهة الآخرين"، فأصبحت معتمداً على نفسي في الذهاب إلى النادي.

وأوضح مهاني أن المهمة ليست معقدة كما يراها البعض، فهي أسهل مما يتصورون، فخلال ساعات التدريب ينصب تركيزه على صوت المدرب في حديثه عن الدرس اليومي والحركات التي يود تعلمها من خلال الإدراك الحسي وعد الخطوات وحفظ الاتجاهات وتحديد مصدر الصوت.

فأهم ما يحتاجونه خلال التدريب التمركز على الوقوف، والقدرة على الإنصات، والبقاء في وضع الاستعداد، منتظرًا وزملاءه تلقي التعليمات من مدربهم لمعرفة كيفية مواجهة المنافس الذي في الأغلب يكون من ذات الفئة.

وأشار مهاني إلى أن حبه للكاراتيه ذلل أمامه الصعاب، وقوى من عزيمتهم وإرادتهم لتصبح أسماؤهم لامعة في عالم الرياضة.

ويعد الطفل مهاني واحدًا من أفراد منتخب رياضة الكاراتيه للمكفوفين الذي سعى المدرب حسن الراعي لتشكيله لتمثيل فلسطين في بطولات عربية ودولية، وحرم من المشاركة في مسابقات خارجية بسبب سياسة الاحتلال في منعهم من السفر.

وقد لجأ إلى الموسيقى قبل أربعة أعوام على اعتبار أنها غذاء الروح، والرياضة للجسد، فكلاهما يعطيه القوة لإكمال ومواجهة الحياة وفق قوله، وفي معهد إدوارد سعيد تعلم عزف العود، وهي الآلة الموسيقية المفضلة بالنسبة له.

"فالحصار لا يمكن أن يمنع موهبته في العزف، وحتى ممارسة الكاراتيه، فسيحطم أسواره من خلال تحقيق طموحي في مشاركات خارجية"، يتابع مهاني.

لمواجهة المجتمع

ولم يثن غياب بصر مؤمن البيطار (16 عامًا) الذي فقده منذ ولادته عن مواجهة المجتمع بكل ثقة وقوة، ليمارس رياضة الكاراتيه، وبكل خفةٍ ورشاقة يقفز في الهواء دون تعثر، مؤدياً الحركات التي تعلمها باحتراف، ويصد أخرى دفاعًا عن النفس متابعًا اتجاه حركة الهواء الصادر عن الضربة التي وجهت له.

وكان قد التحق بها قبل عامٍ ونصف، والأسباب التي جعلته ممارسًا لها، من أهمها الوضع المعاش في قطاع غزة، والنظرة المجتمعية لذوي الإعاقة، إلى جانب أنها تفريغ نفسي وتمكن من الدفاع عن الذات، وتعمل على رفع منسوب الإصرار والعزيمة وقوة الإرادة.

بعد فترة من تعلمه لقوانين وحركات هذه الرياضة صار "مؤمن" شخصا آخر، بعد أن كان لا يعرف معنى الحياة والعزيمة، ويعيش في ظلم المجتمع، فاختلفت الحياة بالنسبة له 180 درجة، فكسرت لديه روتين حياته اليومية لدرجة أنه تعلق بها وأصبح مواظبًا على ممارستها.

في أول يوم له في النادي الرياضي لم تسع الفرحة قلبه، خاصًة أنه بات يمارس لعبة يمارسها الأسوياء، وجعلته يتخالط معهم، فأنصت لمدربه بكل ما أوتي من قوة، وبدأ يتعلم الحركات من خلال عمل مدربه الحركة وهو يتلمس وضعيته.

البيطار الذي وصل إلى الحزام الأزرق، توج بالمركز الثالث على مستوى العالم والأول على مستوى فلسطين في مسابقة رياضة الكاراتيه في دبي، وتابع حديثه: "أصبحت بالنسبة لي منهج حياة أتطلع بها نحو مستقبل أفضل".

ورغم كسره لحاجز المجتمع بالتحاقه بنادي الرياضة، إلا أن المجتمع لم يتركه وشأنه، فكثيرًا ما يسمع كلماتهم التي تجرح نفسه "أنت ليه بتلعب رياضة"، ولكنه أصبح لا يكترث لمن حوله، ليركز حول تحقيق حلمه في الوصول إلى العالمية ويصبح مدربًا.

تعلق مؤمن في الرياضة أغرى شقيقته الكفيفة منة الله (13 عامًا) فالتحقت بالنادي هي أيضاً.

تقول: "كانوا ينظرون لنا أننا عالةٌ على المجتمع، وأن الكفيف ليس له إلا عكازه الذي قد ينقذه من عثرات الطريق".

ذاكرتها التي أسعفتها في تعلم الحركات واتقانها خلال فترة وجيزة مكنتها من حماية جسدها الضعيف من الضربات التي توجه لها خلال التمارين، فممارستها لهذه الرياضة عززت ثقتها بنفسها، ولأن تدافع عن نفسها.

وتطمح منة الله أن تصبح بطلة فلسطين وتمثلها في الوطن العربي والمحافل الدولية، خاصة أنها أول لاعبة عربية من فئة الإعاقة البصرية الكاملة تلعب فن "الكاراتيه".

سرعة الاستيعاب

ومن جهته، قال مدرب فريق المكفوفين بأكاديمية نادي المشتل للفنون القتالية حسن الراعي: "تعد الإعاقة البصرية من أصعب الإعاقات، فتدريبهم يعتمد على برنامج الإدراك الحسي، ويحتاجون إلى جهد كبير من قبل المدرب واللاعب".

وأضاف: "لكن اللاعبين من هذه الفئة لديهم قدرات فائقة في التعلم، فمنهم من أنهى تدريبه بشكل كامل خلال 18 يوما، فقدراتهم تضاهي الأسوياء؛ ويساعدهم في ذلك سرعة الاستيعاب ومرونة التحرك والاعتماد على السمع والتركيز العالي".

وأوضح الراعي أن هذه الفئة لديها قدرة داخلية وتحد للإعاقة، مما أهلهم للحصول على نتائج عالية، وأنشأت علاقة حب بينهم وبين رياضة الكاراتيه، فأثبتت ذاتهم وعززت ثقتهم بأنفسهم، وكسرت حاجز الخوف والشعور بالعجز.

وبسعادة غامرة تابع الحديث: "نستهل الأمر بعمل تفريغ نفسي، ومعرفة إذا كان قد تعرض الملتحق لمواقف أو تم الاعتداء عليه، ثم نزرع بداخله قدرته على الوصول إلى الحق، والدفاع عن النفس".

وبين الراعي أن بداية التدريب تستغرق مجهودا شاقا، ولكن الصعوبات تتذلل بإيمان الشخص بقدراته، ومن ثم استخراج الطاقات الكامنة بداخله، ولذلك تُعد الكاراتيه بالنسبة لهذه الفئة العصا السحرية التي تمدهم بالقوة والاعتماد على الذات، أي أنها "عين ثالثة" بالنسبة لهم.

ولفت إلى أن أسس هذا الفريق الخاص بالمكفوفين عام 2016، والمكون من 7 أشخاص من فئة المكفوفين، ولكنهم لا يتلقون الدعم والمساندة من قبل المؤسسات المعنية.