"لو نقلت إدارة الرئيس ترامب السفارة الأميركية إلى القدس، ولم تُزل قضية القدس عن جدول الأعمال لقلنا حسنًا، لو أزالت القدس عن جدول الأعمال، ولم تُزل موضوع اللاجئين الفلسطينيين عنه لقلنا حسنًا، لو أزالت اللاجئين عن جدول الأعمال، ولم تعترف بضم هضبة الجولان السورية في حرب الأيام الستة لقلنا حسنًا، لو اعترفت بضم الهضبة، ولم تتناول على الإطلاق نوايا الضم الإسرائيلية في الضفة الغربية لقلنا حسنًا، غير أن ترامب نقل السفارة إلى القدس، وأزال الموضوع عن جدول الأعمال، وكذا أيضًا موضوع اللاجئين، واعترف بضم هضبة الجولان، والسبت الماضي في صحيفة "نيويورك تايمز"، حرص سفيره الذي يمكث على يمين نتنياهو على أن يقول الجملة المذهلة التالية: (في ظروف معينة، أعتقد أن لـ(إسرائيل) الحق في الاحتفاظ بجزء من الضفة الغربية، ولكن ليس كلها)".
الفقرة السابقة لم يكتبها فلسطيني، وإنما يوسي بيلين، الوزير الإسرائيلي السابق، وواحد من مهندسي اتفاق أوسلو الإسرائيليين، كتبها في صحيفة "إسرائيل اليوم" (14/6/2019م)، وتساق هذه الفقرة للتدليل على أن من صاغ "صفقة القرن"، بالحدود التي تسربت عنها حتى كتابة هذه الأسطر، قد صاغها ضد أي حلٍّ مقبول للصراع العربي ـ الإسرائيلي، لقد حسمت إدارة ترامب لمصلحة الكيان الإسرائيلي قضايا الحل النهائي المؤجلة بموجب اتفاقات أوسلو، وكان من المفترض أن تحسم منذ أكثر من عشرين عامًا، لكن المسار فشل، وبقيت الأطراف عالقةً في صيغة اتفاقات أوسلو المتآكلة لمصلحة الكيان الإسرائيلي، الذي استثمرها عمليًّا للخلاص من السيطرة على الكتل السكانية، وإحالة عبئها إلى السلطة الفلسطينية، وتعزيز الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية، ما فرض وقائع إسرائيلية على الأرض.
نصّت الاتفاقات الانتقالية على مطالبة الطرفين بعدم تغيير الوقائع على الأرض، مع أن طرفًا واحدًا قادر على فرض هذه الوقائع، ليس هناك عاقل يقول إن اتفاقات أوسلو قامت بين طرفين متوازيين بالقدرة والتأثير، ولذلك، كان الفلسطينيون الطرف الضعيف، والمفروض شروط مجحفة بموجب الاتفاق، أما الطرف الإسرائيلي فقد صاغ الاتفاقات لتلائم استمرار فرض سيطرته الاحتلالية على الأراضي الفلسطينية، وعندما تعارضت هذه الاتفاقات ومصالحه، خرقها على أوسع نطاق، ولذلك، نرى الاستيطان الإسرائيلي زاد بنسبٍ غير مسبوقة بعد اتفاقات أوسلو.
وعندما انفجرت الانتفاضة الثانية على خلفية فشل المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في الولايات المتحدة، كان الرد الإسرائيلي اقتحام مناطق السلطة عسكريًّا، ومحاصرة الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، في مقرّه، وبعد ذلك بناء جدار الفصل الضم العنصري في الضفة الغربية، على الخطوط التي يراها الكيان مناسبة له، لم يبنَ الجدار على الخط الأخضر الذي كان نتاج حرب عام 1948م، بل بُني في مواقع كثيرة في عمق الضفة العربية شاملًا المستوطنات، ومحوّلًا الضفة الغربية عمليًّا إلى معازل بشرية مقطعة الأوصال.
ويبدو هذا كله بالمفهوم الأميركي ليس فرضًا لأمر واقع إسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، أما ما الوقائع التي فرضها الفلسطينيون على الأرض؟، إنها لا شيء، بل هم خسروا من الاتفاقات الانتقالية، إضافة إلى القضم الاستيطاني للأراضي الفلسطينية وتحطيم قضايا الحل النهائي، فعلى مدى ربع القرن المنصرم من عمر "أوسلو"، خسرت السلطة فتاتًا كثيرًا منحتها إياه الاتفاقات الانتقالية، بدءًا باقتحامات المناطق المصنفة "أ" مع الانتفاضة الثانية، وصولًا إلى اقتطاع الاحتلال جزءًا من أموال الضرائب الفلسطينية هذه الأيام، بذريعة أنها تذهب إلى الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال.
لا تشير "صفقة القرن" إلى التعاون الوثيق بين الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة في عملية إنتاجها فحسب، بل إلى تحوّل إدارة ترامب إلى ناطقٍ باسم اليمين الإسرائيلي، ولا يُعتقد أن دولة مؤسسات، مثل الولايات المتحدة الأميركية، لا يوجد فيها مسؤول في الإدارة نبّه إلى أن هذا الحل لا يمكن أن يمرّ، لأنه ببساطة يذل الفلسطينيين، ولا يمنحهم سوى مقايضة حقوقهم بالمال.
وواضح أن من صاغ "الصفقة" يدرك أن الفلسطينيين لن يقبلوها، فاندفع مبكّرًا إلى ابتزازهم بجعل شروطهم أسوأ، بوقف المساعدات الأميركية لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ووقف بعض المساعدات الأميركية لمشاريع تنموية في الأراضي الفلسطينية، والتهديد بوقف كل المساعدات الأميركية للسلطة، وهي مساعدات أساسية لاستمرارها، دفع هذا كله الفلسطينيين إلى عدّ الصفقة حالة إنقاذية للوضع الفلسطيني الصعب.
ما لا ينتبه إليه مصممو الضغوط على السلطة الفلسطينية يلفت إليه العقيد احتياط، الإسرائيلي ميخائيل ميلشتاين، في ورقةٍ تحذّر من الأوضاع القائمة، على أساس أن ما هو قائم يحتاج إلى "إخطار إستراتيجي" حيال السلطة الفلسطينية، وهو يحذّر، في ضوء الأزمة الاقتصادية الفلسطينية، من عدة تهديدات: "اتساع دائرة الفلسطينيين المشاركين في أحداث العنف والإرهاب والإخلال بالنظام؛ ورفع حركة حماس رأسها في ضوء قيود السلطة؛ والمس بالتنسيق الأمني مع (إسرائيل)، ومصاعب أداء السلطة مهامها في المجال المدني، التي ستضطر (إسرائيل) إلى الاهتمام بها".
يشبّه مستشار الرئيس ترامب صهره جاريد كوشنر خطته صفقة القرن بخطة مارشال الأميركية لإعادة إعمار أوروبا، ويبدو أن صاحب الصفقة الفاسدة يجهل التاريخ، ويقارن ما لا يصلح للمقارنة؛ فهو لا يدرك أن مشروع مارشال لم يكافئ المحتل على احتلاله، ولم يعاقب المهزوم، لكن الاتفاق السياسي على الخريطة السياسية لأوروبا كان ناجزًا قبل المشروع الذي كان يهدف إلى عدم التحاق الدول الغربية المدمرة بالشيوعية، وعلى أهميته لم يكن مشروع مارشال خيريًّا، بمعنى أنه كان مشروعًا لربط أوروبا بأميركا، ولمواجهة التمدد الشيوعي في أوروبا، وفي جميع الأحوال، كان المشروع متوازنًا للدول الغربية التي كانت على طرفي الحرب العالمية الثانية، المنتصر والمهزوم.
وبالعودة إلى "صفقة القرن" يمكن القول إن النظر إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي على أنه صفقة تجارية محضة، يمكن فيها مقايضة الحقوق برفاهية اقتصادية من دون حل سياسي؛ هو وصفة للفشل، وإن إقامة الحل كله بأسلوب فج لمصلحة المحتل، وابتزاز الضحية، والطلب منها الموافقة على الصفقة، بوصفها الفرصة المواتية؛ هي ليست فقط اصطفافًا فجًّا مع الاحتلال فحسب، بل هي أيضًا إهانة للضحايا، وإذلال لهم، وسلبهم حقوقهم بموافقتهم، أو فرضها عليهم بالقوة، أي أن عدم موافقة الفلسطينيين على الصفقة سيجعلهم عرضة لتحقيقها، عقابًا لهم على رفضهم لها، بمعنى آخر، من أعدّ هذه الصفقة لمصلحة الكيان الإسرائيلي صمّمها بحيث يكون نجاحها الأمثل في فشلها.
العربي الجديد