صرّح جيسون غرينبلات، عضو الفريق الأميركي المسؤول عن إعداد ما تسمى "صفقة القرن"، في مؤتمر صحيفة "جيروزاليم بوست" الذي عقد في نيويورك يوم 16 حزيران/ يونيو، بأنه على الأرجح لن يعرض الجانب السياسي من الصفقة قبل تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أي بعد الانتخابات الإسرائيلية وتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وأشار إلى أن القرار النهائي بموعد طرح "الصفقة" سيتحدد بعد ورشة المنامة، تمامًا كما جرى مرات عدة كان آخرها في نهاية العام الماضي عندما أُجِّل الإعلان عنها إلى ما بعد الانتخابات الماضية، التي لم يستطع فيها بنيامين نتنياهو تشكيل الحكومة مع أن اليمين الإسرائيلي بتشكيلاته المختلفة قد حصل على أغلبية المقاعد في الكنيست، وهذا يوضح أن الرزنامة الإسرائيلية هي التي تتحكم بالصفقة.
هذا التأجيل المتكرر على خلفية الانتخابات الإسرائيلية، إما أنه يستخدم كذريعة لا أكثر، كون إدارة ترامب غير متعجلة، وربما لا تريد الإعلان عن "الصفقة"، لأنها تعرف أنّ هناك إجماعًا فلسطينيًا رافضًا لها، وهذا سيحرج العرب الموافقين عليها، قسرًا أو طواعية، إذا أعلن عنها، وخصوصًا أنهم يعلنون صباح مساء أنهم يوافقون على ما يوافق عليه الفلسطينيون. وكما أكّدوا في كل القمم التي عقدوها على تمسكهم بالحقوق الفلسطينية، خصوصًا إقامة دولة فلسطينية عاصمتها شرق القدس، وهذا ما يتناقض كليًا مع "الصفقة" التي تتجاهل الحقوق الفلسطينية، في حين أن عقد ورشة المنامة، وبمشاركة عربية وإسرائيلية وأميركية، وفي ظل غياب الفلسطينيين يمس ادعاءات العرب المشاركين حول تمسكهم بالحقوق الفلسطينية.
أو أن واشنطن لا تريد طرح "الصفقة"، وستستخدم التأجيل لكسب الوقت، وتنفيذ ما يمكن تنفيذه منها، وفرض المزيد من الحقائق الاستعمارية الاحتلالية على الأرض، وتقليل المعارضة لها بحجة كيف تعارض صفقة غير معلنة.
أو تخشى إدارة ترامب من أن طرح "الصفقة" قبل الانتخابات سيقلل من فرص نتنياهو بالفوز، لأن "الصفقة" مهما بلغ تبنيها للموقف الإسرائيلي إلا أنها ستواجه بمعارضة من الأحزاب اليمينية الأكثر تطرفًا، بما فيها عناصر من حزب الليكود، الأمر الذي سيُغضب المسيحيين الصهاينة الأميركيين الذين يشكلون القاعدة الانتخابية الأساسية التي يراهن عليها ترامب للفوز بولاية ثانية.
لقد أصبح بقاء نتنياهو في الحكم رغم مساوئه، وبعد الأنباء عن السعي من داخل حزبه وخارجه للتخلص منه، أهم من "الصفقة"، وبما يقود إلى جعلها أكثر إسرائيلية.
كما أن تأجيل طرح "الصفقة" أحد أسبابه موقف الإجماع الفلسطيني الرافض للصفقة، مثلما رفض المشاركة في ورشة البحرين، الأمر الذي أدى إلى جعلها ورشة باهتة ويتهددها الفشل.
وسيزعج طرح "الصفقة" الأحزاب الإسرائيلية الأكثر تطرفًا التي لا تقبل بتقديم حتى الفتات للفلسطينيين، التي رغم تبنيها وجهة نظر اليمين الإسرائيلي الذي يريد أن يقيم "إسرائيل الكبرى"، ولا يقبل قيام دولة فلسطينية بأي حال من الأحوال، إلا أنها يمكن أن تتضمن بعض العسل الضروري لتمرير السم الذي تحتويه.
قد لا تقبل الحكومة الإسرائيلية اليمينية "الصفقة" كما هي، مع أنها صناعة إسرائيلية بالكامل، وتراهن على الرفض الفلسطيني المتوقع لها الذي يقدم المسوغ لمعاقبتهم، وضم أجزاء من الضفة يمكن أن تبدأ بضم الكتل الاستيطانية أو جميع المستوطنات، وصولًا إلى ضم مناطق (ج) التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة، ما يجنب حكومة نتنياهو عواقب عدم قبول "الصفقة".
أما إذا قبلتها، فسيأخذ قبولها صورة "لعم"، أي يمكن أن تقبل بها مع وضع تحفظات عليها، كما فعل أرئيل شارون مع خارطة الطريق الدولية التي طرحت في عام 2003، إذ وافق عليها ووضع 14 تحفّظًا نسفتها من أساسها. مع أن الإسرائيليين والأميركيين ليست الأولوية لديهم في الوقت الحالي قبول الفلسطينيين للصفقة، فهي ليست للتفاوض بل للفرض والإملاء، ويريدون منهم التكيف مع الحقائق التي خلقتها الصفقة على أن يقبلوها فيما بعد.
أميل بشدة إلى أنّ إدارة ترامب غير متحمسة لطرح الجانب السياسي، لذلك أجلت الإعلان عنه مرة وراء مرة، مع أنها فرضته بالقوة ومن جانب واحد من خلال كل الإجراءات التي اتخذتها، من نقل السفارة والسعي لتصفية قضية اللاجئين، مرورًا بتشريع الاستيطان، ورفض قيام الدولة الفلسطينية، وإغلاق مكتب المنظمة، وانتهاء بالتمهيد لضم أجزاء من الضفة كما جاء في تصريح ديفيد فريدمان، السفير الأميركي في تل أبيب، عن حق إسرائيل بضم أجزاء من الضفة الغربية، الذي صرّح غرينبلات بأنه يوافق روحه، ما يدل على أن الفريق الأميركي أكثر تطرفًا، ويسابق اليمين الإسرائيلي في تبني الضم.
في هذا السياق، نضع اختيار إدارة ترامب الاكتفاء بطرح الجانب الاقتصادي كـ"بروفة"، وعلى أمل إقناع الفلسطينيين بقبول "الازدهار" تحت الاحتلال، على قاعدة شيء أفضل من لا شيء، وأن تحسين حياتهم في ظل الاحتلال أفضل من احتلال بشروط حياة سيئة.
إنّ عدم إدراك ترامب وفريقه برئاسة صهره جاريد كوشنر لحقائق وتاريخ الصراع تجعلهم يتصورون أن الفلسطينيين يمكنهم أن يبيعوا حقوقهم وتطلعاتهم الوطنية مقابل وعد كاذب بتحقيق "الازدهار" تحت الاحتلال. فلا يمكن تصديق أن الهدف هو تحقيق استدامة أو ازدهار في ظل الإفقار المتزايد، وشن الحرب الاقتصادية على الفلسطينيين، كما يظهر في قطع الإدارة الأميركية المساعدات عن السلطة الفلسطينية ومستشفيات القدس ووكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، وتشجيع القتل والاعتقال وخصم الأموال، وإبقاء الفلسطينيين في الضفة والقطاع على حافة الهاوية بين الحياة والموت، وكذلك تشجيع مشاريع الضم والمصادرة والتهجير والتمييز العنصري، التي تهبّ رياحها بقوة في إسرائيل، حيث تتنافس الأحزاب فيها على من هو الأكثر تطرفًا وعداءً ضد الفلسطينيين.
ومن يراهن على التغيرات في (إسرائيل)، وعلى ما كان ما يسمى "معسكر السلام"، عليه أن يرى برنامج حزب "أزرق-أبيض"، وتصريحات رئيسه بيني غانتس حول كيفية التعامل مع قطاع غزة، إذ يطالب بشنّ عدوان إسرائيلي أشد، متجاهلًا أن قطاع غزة محتل ومحاصر، ويعاني من العقوبات، لدرجة أنه أكبر وأطول سجن في التاريخ، وأنه جزء من الشعب الفلسطيني الذي يتوق لممارسة حقه في تقرير مصيره على أرض وطنه.
لن تنطلي كذبة "الازدهار" على الفلسطينيين، لأن الأموال غير متوفرة وغير مضمونة، حتى لو وُعِد بتقديمها، وكذلك لا يوجد أحد يمكن أن يدعم ويستثمر أموالًا كثيرة، في ظل هذه الأوضاع المرشحة للانهيار والانفجار في كل وقت، جراء التّنكّر الإسرائيلي الكامل للحقوق الفلسطينية، والمقاومة الفلسطينية المتوقعة ضده.
إن المصاعب الكبيرة التي تقف في وجه الخطة الأميركية الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية، التي تشير إلى إمكانية إحباطها، واستحالة إنهاء الصراع ما دامت هناك قضية حية وشعب مستعد للكفاح والتضحية من أجلها، وهذا شيء جيد، ولكن يجب ألا نقلل من النتائج التي انتهت ويمكن أن تنتهي إليها، لجهة تكريس الحقائق الاحتلالية الاستعمارية الاستيطانية العنصرية القائمة على الأرض، وتلك التي يُخطَّط لها، التي تجعل حياة الفلسطينيين وشروط نضالهم لإنجاز تطلعاتهم وحقوقهم الوطنية أصعب. لذلك، فإن الرد المناسب والمنتظر على تحديات المرحلة هو تلبية نداء الوحدة على أساس البرنامج المشترك، والمشاركة الحقيقية، والتعددية، وبما يحقق الديمقراطية التوافقية.