الجمعة الثالث من فبراير/ شباط 2017م، أوصل محمد وليد القوقا "أبو شامل" (38 عامًا) والدته إلى بيت شقيقته، وكأنه حدسٌ داخلي؛ فخلال الطريق كان يحدثها عن إصاباتٍ مختلفة بالحروق تعرض لها بعض أقاربه أثناء التصنيع، أخبرها عن كيفية إصابتهم، وبعد أن أوصلها أخذ أولاده الأربعة في رحلةٍ عائلية قصيرة إلى ميناء غزة، حدثهم عن أسباب سواد المياه فيها، وأن ذلك نتيجة السولار المنبعث من ماتورات قوارب الصيادين في المرفأ.
صباح يوم السبت الذي كان فارقًا في حياة عائلة القوقا، استيقظ "أبو شامل" لصلاة الفجر، مر على والدته يطمئن عليها وهمس بصوتٍ دافئ: "بتصلي يمَّا"؛ ثم طلب منها أن تدعي له.
الساعة العاشرة صباحًا من ذات اليوم، تلقى شقيقه الأكبر مراد (استشاري جراحة العظام بمستشفى الشفاء) اتصالًا من زملائه بالمستشفى، أخبروه في البداية أن هناك مصابًا اسمه "أبو شامل القوقا".
على عجالة أخبر مراد أفراد العائلة وذهب إلى المستشفى، كان وضع محمد صعبًا، وإصابته بالغة وقبل أن يدخل بالغيبوبة ردد الشهادتين وطلب الاتصال بشقيقه الطبيب، كانت يداه مبتورتين ولديه إصابة بالأطراف السفلية وتهتك بالعظام وإصابة بالرئتين والعينين، نتيجة انفجار قذيفة صنَعها، ثم ارتقت روحه الطاهرة على إثر تلك الإصابة يوم الأحد الخامس من فبراير ونال الشهادة أثناء عمله في الإعداد والتجهيز للمعارك القادمة مع الاحتلال.
طفولته
قصة الشهيد "محمد القوقا"، نسَجَت تفاصيلها في بيتهم المتواضع بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، فنجلهم الذي هو أحد أبرز قادة التصنيع في القسام بقطاع غزة، ترك كل شيءٍ ورحل دون وداع، حتى هو نفسه لا يعلم أنه سيغادرهم في يومٍ حملَ الجرح لعائلته وأبناء حيِّه.
يتحدث والده وليد القوقا أثناء جلوسنا في صالة استقبال الضيوف مع أفراد عائلته، عن طفولة نجله الشهيد محمد من مواليد (1979م) حينما كان عمره 8 سنوات، فشارك أثناء ذلك بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987م.
حينها كانت تلك الفترة مفصلية في حياة محمد، يكمل: "محمد شارك بالانتفاضة الأولى وكان يلقي الحجارة على جنود الاحتلال بمحافظة خان يونس، بعدها التزم في الصلاة بجامع بلال بذات المحافظة وهو في سن الحادية عشرة، كان شيخه حينها في ذلك المسجد القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف إذ ترعرع على يديه تربويًا ودعويًا".
كذلك تأثر بخاله الشهيد المؤسس في حركة حماس خليل القوقا فكان له دور في تربيته الدعوية، واستمر على هذا النهج حتى بلغ الثانوية العامة، بعد ذلك ظهرت عليه ملامح الانتماء العسكري للقسام عام 1999.
وبعد الثانوية العامة درس الشهيد دبلوم "إدارة فنادق" في مطلع عام 2000م، وتأثر بالشهيد أبو يوسف القوقا (قائد ألوية الناصر صلاح الدين الأيوبي) وعمل معه في تلك الفترة، ثم عمل بشكل كبير مع الشهيد القائد القسامي خالد أبو سلمية.
ويذكر والده بأن نجله الشهيد تعرض لمحاولة اغتيال بعد استهداف طائرات الاحتلال في معركة "الفرقان" عام 2008م نقطة تصنيع للقسام كان محمد يتواجد بها، لكنه نجا منها بأعجوبة، كذلك أصيب أكثر من مرة بمجال عمله بالتصنيع بحروق مختلفة بقيت ظاهرة عليه حتى يوم استشهاده.
في إحدى المرات، (وهذه القصة حدَّث محمد بها والده قبل استشهاده)، كان يجلس بغرفة بأحد أماكن التصنيع، وفجأة سمع صوتًا من إحدى القذائف، غادر صديقه الغرفة وترك الباب مغلقًا، وحينما نهض أبو الوليد مسارعًا إلى فتح الباب تلقائيًا وبمجرد تخطيه عتبة باب الغرفة حدث "انفجار رهيب" أشعل سترته من ناحية الظهر وفق وصفه، لكنه أصيب بحروق بيده.
انفجارات عديدة أخرى حدثت مع نجله لكنه كان يعتبرها أمورًا خفيفة، يقول: "إن أي شيء كان يشعر بخطورته أثناء التصنيع كان يأخذه إلى مكانٍ خالٍ"، ودائمًا كان يردد هذه العبارة: "بعد جهادٍ طويل كم ستكون خسارة لو أني لم أنل الشهادة".
وذات مرة شعرَ أن أمه "غاضبة" منه، وحين عاد إلى البيت يومها أخذ يحضنها وينال رضاها قرابة "ربع ساعة".
ورغم أن أبا مراد رجل إصلاح إلا أنه يعترف بفخر:
- اعتبرت محمد الأب الثاني بعدي في المنزل، كنت أقتنعُ دائمًا بكلامه وأعمل به دون أن أظهر له ذلك.
حياته العسكرية
ويتحدث أحد أشقائه عن الحياة الجهادية للشهيد، بأنه عمل في التصنيع لدى كتائب القسام منذ عام 2002 مع الشهيد خالد أبو سلمية، الذي كان يعتمد عليه كثيرًا بسبب خبرته الفنية العالية، فجعله نائبًا له.
لم ينتهِ من التفاصيل هنا، يواصل: "كان لأخي محمد بصمة مع أبو سلمية في سلاح "البنا" الذي ظهر فترة واستعملته كتائب القسام كسلاح دروع، ثم ظهر سلاح "البتار" وكان الفضل لهما أيضًا به، واستخدم بعدة اجتياحات خاصة بمنطقة الزيتون؛ وبعدها كان لهما فضل بتطوير وصناعة سلاح الياسين".
ويكمل حديثًا يشقّ على النفس ويملؤها فخرًا في الآن نفسه: "كان محمد مميزًا بسلاح الدروع ويعرف تفاصيل هذا السلاح، من حيث الاختراق والمدى والشكل الهندسي، لكنه كان يستشير بعض الخبراء في هذا المجال حتى يكون السلاح مميزًا وفعالًا".
إبداعات "أبو شامل" لم تنتهِ عند ما سبق، يسترسل شقيقه: "طور محمد قذائف RBG 85 روسية الصنع، حتى تصبح قذائف "ترادفية" أو مزدوجة، وكان له السهم الأول في تطوير سلاح "التاندوم"، الذي أحرز نجاحًا باهرًا واستخدم في العصف المأكول عام 2014م، واخترقَ وفجَّر دبابات الميركافاة عدة مرات، حيث كان له بصمة مميزة في هذا السلاح وأمضى عشر سنوات في مجال سلاح الدروع.
"أبو الدروع" لقب استحقه أبو "شامل" في كتائب القسام، وعن ذلك يقول شقيقه: "حينما يعجز زملاؤه بالقسام عن شيء معين بكافة أنواع القذائف كانوا يلجؤون إلى محمد، فكان يجزئ القذيفة بكل تفاصيلها".
على مقعده داخل صالة الضيوف يعيد صياغة سيرة عسكرية لطالما كانت مجهولة عنه من غالبية أفراد أسرته، أُخرجت من أدراج الكتمان وأسرار القسام إلى العلن بعد استشهاد "أبو شامل"، فيكشف أنه خلال الفترة الأخيرة عمل الشهيد بسلاح الهاون وأوكل إليه مع زملائه ملف تطوير سلاح الهاون في القسام، و"كُتب على يديه نجاح باهر؛ وكان له بصمة واضحة فيه ".
يعلق شقيقه على التجربة التي عرضت بفيديو تأبين شقيقه الشهيد، حينما ظهر وهو يضرب قذيفة الهاون، واضعًا يده اليسرى في جيب سترته، ويُمسك بالقذيفة ويضعها بهدوء بالقاذف ويبتعد ببطءٍ بكلِّ ثقة، موجهًا رسالة أن هذا السلاح أصبح آمنًا، ولا يُشكل خطرًا على المقاومين.
لكن عمل أبو "أبو شامل" لم يكن فقط في الدروع، وللحديث بقية مع المعتصم، فيكمل: "عمل محمد بداية في مجموعات القسام بمخيم الشاطئ، وحفر الأنفاق، والرباط، وخلية طيبة القسامية التي خططت لتنفيذ عمليات بالداخل المحتل، كذلك دوره في الإعداد والتجهيز وحفر نفق عملية السهم الثاقب عام 2004 شرق غزة التي أوقعت قتلى وجرحى في صفوف الاحتلال".
لكن شقيقه يعترف: "برُغم علاقتي القوية مع أخي، وتواجدي الدائم معه، لكن لم أعلم بمشاركته بخلية طيبة إلا قبل شهرين من استشهاده، من أناس آخرين".
"الاحتلال قال إن عملية طيبة لو نجحت سنعيد النظر باتفاقية أوسلو".. ما زال يبدي فخره بالشهيد، بأن دور محمد بخلية طيبة تمحور بالرصد لتنفيذ بعض العمليات في الداخل المحتل.
كشريطٍ سريع تمر صفات محمد على أخيه؛ بأنه كان محبوبًا وشخصية قيادية ولديه عزيمة جبارة، لا يركن للدنيا، يفكر، يخطط، يبتكر، لا تفتر همته، وهو من المؤثرين الأوائل في سلاح الدروع لدى كتائب القسام، فكان له السهم الأول بتطويره على مستوى القطاع.
لطالما أراد هذا الشقيق معرفة شخصية هذا الأخ الرائع، قائلًا: "كنت أطرح تساؤلات على نفسي هل هو ذلك الشخص الذي أسمع عنه من البعض، ويتحدثون أن دوره ليس بسيطًا بتطوير سلاح الدروع".
"كنت أسأله عن تفاصيل القذائف"؛ يتابع، مضيفًا: "وجدته يفهم طريقة عملها أكثر من الذين صنعوها، يعرف كل جزئية في تفاصيلها ولديه خبرة بها، مهما كانت صغيرة كان يفهمها بالتفصيل".
في داخل غرفة "الضيوف" بمنزل العائلة، ما زال يفتح شقيقه قلبه في ذكر حقيقة شخصية أبي الوليد العسكرية، يضيف: "كنت أريدُ رؤية مدى إدراكه لهذا العمل بالسلاح؛ فعقليته في التصنيع خرافية، خسارةٌ كبيرة للحركة ولكل من أحبه أن يرحل، فكان من الممكن أن تكون على يده نجاحات كبيرة في المستقبل، كان رأيه سديدا في كل ما أستشيره به".
موقف حدث بينه وبين محمد، ففي زاوية الغرفة التي نجلس فيها، جلسا سابقا يتبادلان الحديث، حينها أوصى محمد شقيقه وهو يضرب بكفة يديه على قدمه قائلًا: "إذا أنا استشهدت بنتي رغد حصتك".
حياة اجتماعية
والدة محمد "أم مراد" هي أيضا أعادت سرد الذكريات لنا، صوتها بدا كجمرة أذابها الفراق المفاجئ فتقول:
- محمد جريء حكيم بتصرفاته؛ شخصية قيادية كنت أعتمد عليه في البيت، حينما يجلس بالبيت لا يضايقني أحد من الأبناء من ناحية المساعدة بشؤون البيت؛ وكلمته مسموعة بين إخوته.
ما تزال تواصل الإشادة بصفات نجلها: "لدى ابني حزم وحنان في نفس الوقت، يحب الخير لإخوته، ويحرص على رفعتهم بالعلم والدين".
تنقب في شريط ذكرياتها؛ ثم تبوح: "لدي سبعة أولاد وثلاث بنات، ساعدني "أبو الوليد" في تعليم ستة أبناء، فكان يأخذ كل واحد منهم في شقته قبل امتحان الثانوية العامة بشهر؛ وجميع إخوته الذين وضع لهم خطة الدراسة نجحوا وتخرجوا في الجامعات".
تقول أم مراد: "كان يستشيرني في شؤون حياته، خاصة وأنه في الفترة الأخيرة أراد شراء بيت، فإذا لم يعجبني المكان يتركه؛ أي أنه كان يأخذ رأيي بجدية".
استرجعت بعضًا من المواقف التي قد تهدئ من اشتعال الشوق؛ وقالت بحزنٍ يقطر من صوتها: "محمد رسم خارطة لكل شقيق له عن برِّ الوالدين، كان يجلس معهم على مدار ساعة أو ساعتين داخل غرفة مغلقة يحدث كل واحد منهم عن الحياة على انفراد".
أحب "أبو الوليد" كما يناديه أفراد عائلته في المنزل, أما "أبو شامل" فكنيته في كتائب القسام، مخالطة كبار السن، كان يقلهم بسيارته أثناء مصادفته لهم بالطريق، "ما شاء الله على شهامتك ورجولتك من أي عيلة وبلدة أنت".. هذه الجملة ترددت كثيرًا لمحمد من كبار السن.
ولدى الشهيد أربعة أبناء، وهم رغد 9 سنوات، ووليد 8 سنوات، ومحمد 5 سنوات، ومجد 3 سنوات، وكان يحرص أن تكون معدلاتهم الدراسية مرتفعة.
بعد أن تزوج وهو في سن 28 عاما، أراد محمد أن يستقل في السكن، وعلى الفور رفضت أمه الطلب "بعد عشر سنوات بتقدر تطلع"، ثم عللت رفضها له: "راكنة على الله ثم عليك بترباية إخوتك"، بألم تستذكر ذلك الموقف.
قبل شهر من الاستشهاد، رأى محمد رؤية بمنامه (تقول أمه)، بأنه ذهب لرؤية بيت ليشتريه، أمسكت أمه به من جهة وزوجته من جهة، وقالتا له خليها لشهر 2 "، مضيفةً: "تحقق ما رأى عن البيت الثاني الذي كان هو "الآخرة".
تذكر أن أحد الأقارب، رأى رؤية بأن نجلها الشهيد يقف بجموع محيطة به بمكان كله نور فلم يعرف أبو الوليد نظرًا لطول قامته ونوره الذي صدر منه، كان أحدهم يسلم عليه بشدة، وحينما سأل عن ذلك الرجل، أخبروه أنه الرسول يسلم على الشهيد "القوقا".
في آخر شهرين، والكلام لأم مراد، كان نجلها يرى الدنيا "كثقب إبرة"، وأن "أهل الدنيا متمسكون بها"، يطلب من والدته ما ينتظره "ادعيلي بالشهادة"، ترد بحذر: "حينما تزوج أولادك الله يسهل عليك"، أظهر حزنه من ردّها: "أنت ما بتدعيلي هيك.. أنت بتدعي علي"، مرة أخرى عللت له السبب: "أولادك صغار، مين بده يكبَّرهم ويربيهم"، أبدى ثقته بأهله "هذي مهمتكم أنتم".
مشهد من أحد أيامه الأخيرة، كان يوم جمعة وإذا بـ"أبي شامل" يخبر والدته: "رايح على خان يونس"، تعجبت أم مراد "مين إلنا هناك"، كان رده مفاجئًا لها: "أصحابي الشهداء يا أمي"، تكمل: "غاب محمد ساعتين, قرأ سورة "يس" على أرواح الشهيدين ثم زار عائلتيهما وعاد إلى البيت".
تستعيد بعض المواقف المرحة والطريفة في حياة هذه العائلة المتماسكة والتي أحد أركان ثباتها "أبو الوليد"، ففي ذات مرة تحدى محمد شقيقه الذي يمارس لعبة كمال الأجسام واستطاع أبو الوليد أن يغلبه في تنزيل اليد، وفي ذات اليوم، تصارع مع بقية إخوته فغلبهم الشهيد الذي تمتع ببنية جسمانية قوية.
فتح باب الغرفة، رجل عيناه تخفيان لوحة من الألم على رحيل أخ غالٍ، منعت الدموع نبرة صوته من الانسدال على وجهه رغم محاولته المتكررة لإعادتها كأنها تعارضه في رسم الحزن على وجهه.
كان ذلك الشخص استشاري جراحة العظام مراد شقيق الشهيد، بهدوء يتسلل الكلام منه: "محمد فاقني بالحكمة، كنت أعود إليه بأمور كثيرة وأستعين برأيه، فلديه رأي مخالف للعالم أجمع".
مراد الذي ظل في تركيا يدرس الدكتوراة لمدة 12 عامًا، يحتفظ بذاكرته بدرس حدثه به محمد يعيد ذكره.
تفاصيل ذلك الدرس، محمد يحدث مراد في يوم من الأيام: "اتصل مسؤولي يريدني بشكل سريع، وعلى عجل جهزت نفسي وهممت بالخروج، وحينما وصلت عتبة المنزل تجمدت وبقيت أفكر في نفسي", هل أنا ذاهب إرضاءً للمسؤول أم لوجه الله"، هذا الشك جعل محمد يعود ويبدل ملابسه ويصلي ركعتين، فيكمل: "احتسيت فنجان قهوة وتأكدت أني خارجٌ لله"، ثم ختم بكلامه موجهًا رسالته لمراد: "ما دامت وجهتك لله لا تكترث بالعواقب لأنها ستكون خيرًا".
نموذج في التربية
5 فبراير/ شباط 2017م, "استشهاد أغلى إنسان".. بها بدأت زوجته أم الوليد (أماني القوقا 29 عامًا)، تحمد الله قائلة: "زوجي كان يتمنى الشهادة في كل ثانية ودقيقة وساعة"، لا تنسى ما قاله لها: "لو بتحبيني بجد ادعي لي دائمًا (اللهم أحيني سعيدًا وأمتني شهيدًا)".
هو بالنسبة لها الزوج الرائع والأب الحنون والأخ والأم والأخت، كأنَّ كلامها ينزف حبرًا من الدمع الذي لا يجف مع الأيام.
- لن أستطيع في يوم من الأيام أن أنساه.
تعتز أنها أنجبت منه رغد 9 سنوات التي كان يقول لها دائمًا: أنت "وردة البيت يا بابا.. اللي بزعلك بزعلني"، وتفتش في شريط الذكريات القريب, "قال لي عن ابني وليد (8 سنوات) هذا سندك وراجلك من بعدي، يوصيه دائمًا بأن يكون بجانبي وبجانب إخوته، أما ابنه محمد (5 سنوات) فناداه "الحبيب والعزيز", وكان يقول: "لو صار له شيء سأموت من بعده"، فرأى به رجلًا داعية وصالحًا.
"ابني مجد, أبوه ناداه مجد وكوماندوز القسام"، وقال عنه: "رجل الرجال"؛ كما قالت: وكأن فراق زوجها سهم انغرس في قلبها وفي غمرة الأحزان.
- زوجي حنون جدًا، لم يغضبني أنا وأبنائه يومًا: "ماذا تريدين كي أفعله لك؟"، مرددًا دائمًا: "الله يرضى عنك, أنت زوجة والله ما أبدلك بكل نساء الكون.. أنت تستحقين الكثير يا زوجتي".
أطلت بكلامها من شرفة الذكريات والحسرة، بقولها: "أبو الوليد فقدانه صعب، كان بارًا تقيًا يخاف الله لا يحب الكذب، صادقًا بكل شيء".
وقبل استشهاده أراد أن يذهب لزيارة كل أقاربه من العمات والخالات, كذلك بيت حماه، وإخوته، تصفه "بأنه طيب وحنون عليها وعلى أبنائه ويحرص على إرضاء والديه، حريص على أداء صلواته كاملة في المسجد في أشد الظروف والأحوال.. لم يحرمني من شيء".
سطور الوجع ما زالت تسكب حزنها بالحبر الأزرق المكتوب بخط أم الوليد..
- كنا في آخر أيامه نجلس دائمًا معًا، يوصي أولاده بالمحافظة على الصلوات وحفظ القرآن، أتذكر ما يقول: "اشتقت لرفاقي وأحبابي الذين استشهدوا.. أنا بدي استشهد اليوم قبل بكرا لأنه هذه الدنيا فانية".
لا تنسى قوله لها: "إذا بدك اشي وأنا مش موجود اطلبيه من أبي أو أخي معتصم.. ولا تخافي من أي شيء أنا معك وبجانبك دائمًا".
ختمت أم الوليد سطورها الموجعة عن لحظة الفراق: "ذهبت إلى المستشفى لرؤيته قبل استشهاده، كنت أخاطبه وأشعر بدقات قلبه تزداد ويشعر بي وأشعر به، وعندما ودعناه كانت رائحته مليئة بالمسك، قبلته ورفع رأسه لي وابتسم.. لن أنساه أبدًا, وقلت: الحمد لله لا أحد يعزيني بل عليكم بتهنئتي".
أثناء جلوسنا مع أفراد العائلة في صالة استقبال الضيوف، أحضرت رغد التي تعلق بها قلب والدها مجموعة من الرسائل التي كتبها لها، كان منها رسالة كتبها في 31 يناير/ كانون الثاني 2017م، فكتب لرغد: "بابا؛ ما تزعلي مني لما أكون معصب، لأني بكون متضايق.. أنا يا بابا بحبك, وديري بالك على ماما واسمعي كلامها.. إلخ"، وفي رسالة أخرى: "أنا لما أشوفك وأنا تعبان بأفرح.. يا حبيبتي يا رغود".
أما في فجر السبت (يوم إصابته), فتقول رغد لنا: "كنت نائمة, سألني والدي إن كنت قد تلحفت جيدًا، ثم أحضر حرامًا آخر وقبلني وغادر إلى صلاة الفجر"؛ وبهذا تنتهي قصة شهيد لطالما كانت مجهولة حتى عن المقربين إليه.