تعتبر إدارة الرئيس الأمريكي ترامب نقل سفارة بلادها من (تل أبيب) إلى القدس خطوة لإعادة التوازن إلى السياسة الأمريكية إزاء الدبلوماسية المستقبلية بشأن المدينة. وفي حين لا يخفى على أحد غياب أي تمثيل رسمي للولايات المتحدة لدى (إسرائيل) في القدس، إلا أنه ثمة أمر آخر ليس معلوماً بالقدر نفسه، وهو أن للولايات المتحدة مركزا دبلوماسيا في القدس يُعنى بتمثيل واشنطن لدى طرف آخر في الادعاء، وهو السلطة الفلسطينية. ووفقاً للموقع الرسمي للقنصلية العامة للولايات المتحدة في القدس منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993م، كان هذا المركز "بمثابة الممثل الفعلي للحكومة الأمريكية لدى السلطة الفلسطينية"، ولا توجد صلة إدارية بين القنصلية والسفارة، حيث يرتبط كلامهما بشكل منفصل مع وزارة الخارجية الأمريكية.
قد جاء "قانون سفارة القدس لعام 1995م" لمعالجة هذه المشكلة، إلا أن الرؤساء كلينتون وجورج دبليو بوش وأوباما تنازلوا باستمرار عن بنوده، قائلين إنه من وجهة نظرهم يتعدى القانون على صلاحية السلطة التنفيذية في الشؤون الخارجية. ومن شأن نقل السفارة الأمريكية أن يصحح التصور الملموس لحالة اختلال التوازن ويعزز أفق واشنطن بالمساعدة في نهاية المطاف في التفاوض على اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين تكون كفيلة، كما اتفق الجانبان، بمعالجة مسألة الوضع الدائم لمدينة القدس وحدودها.
هل هناك تكاليف محتملة قد تترتب على نقل السفارة؟ بالتأكيد. فمن الواضح أن الرؤساء من كلا الحزبين الذين وعدوا بنقل السفارة ثم نكثوا بوعدهم كانوا مقتنعين بأن هذا العمل سيؤدي إلى إثارة سخط الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة وأنه سيؤجج العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبالطبع ستكون فتورة التكاليف على الإدارة الامريكية باهظة جدا وأن أضرار تداعياته تفوق منافعه على النحو التالي:
- نقل السفارة للقدس يمثل اعترافا بالضم الإسرائيلي لشرقي القدس لـ(إسرائيل) على أنها عاصمتها الأبدية وهو ما سيلحق بالضرر على العلاقات الأمريكية في المنطقة ونكث للاتفاقات مع السلطة الفلسطينية بحل الدولتين.
- 2- إبقاء الوضع على حاله عند الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي رفضت الاستجابة لطلب الحكومات الإسرائيلية، ولاحقا الكونجرس في 1995 بنقل السفارة الأمريكية للقدس. ومنذ صدور قرار الكونجرس عام 1995، دأب الرؤساء الأمريكيون على التوقيع على مذكرات كل 6 أشهر بتأجيل نقل السفارة الأمريكية "من أجل مصلحة الأمن القومي الأمريكي".
- 3- سفارتان في الغربية والشرقية وبموجب هذا الخيار تنقل الولايات المتحدة السفارة لغربي القدس، باعتبارها عاصمة (إسرائيل)، وتحول القنصلية الأمريكية بشرقي القدس لسفارة باعتبارها عاصمة فلسطين. وبالنسبة للفلسطينيين يعتبر هذا الخيار هو المفضل، غير أنه لم يسبق أن طرحه أي مسؤول أمريكي وترفضه (إسرائيل) بشدة.
- السفارة (بتل أبيب) والسفير بالقدس حيث نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن ديفيد فريدمان سفير أمريكا بـ(إسرائيل)، أنه راغب بالإقامة في القدس حتى لو لم يتم نقل السفارة للمدينة. وفريدمان، يميني متشدد، ويمتلك شقة بغربي القدس ويريد الإقامة فيها، وليس في مقر إقامة السفير الأمريكي بمدينة هرتسليا (وسط)، كما دأب سلفه من السفراء.
إن توجهات إدارة ترامب بنقل السفارة إلى القدس تأتي نتيجة افتقار واشنطن إلى أي وجود رسمي لها في عاصمة حليفتها (إسرائيل)، ولكنها تحتفظ بوجود دبلوماسي في عاصمة ذلك الحليف لكيان سياسي آخر يدعي ملكيته للأرض والمقدسات داخل تلك المدينة. ولذلك من غير الصحيح القول إن السياسة الأمريكية حافظت على حياد ثابت إزاء قضية القدس بحيث تتمكن من حماية مكانتها كـ"وسيط نزيه".
وإذا أرادت إدارة ترامب فتح صفحة جديدة في الشرق الأوسط يتطلب من ترامب الالتزام بإعادة إرساء الثقة والعلاقة الحميمة بين واشنطن وشركائها في المنطقة، وهذه استراتيجية يمكنه مثلاً تسميتها "حلفاء أمريكا أولاً". وفي هذا السياق، إذا اتخذ القرار بتنفيذ وعده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، فسيبيّن بذلك أن أمريكا تفي فعلاً بوعودها. ولا يجدر بالطبع توقع ترحيب القادة العرب بخطوة نقل السفارة، ولكن إذا تم تبريرها على أنها جزءٌ من إجراءات استراتيجية لإعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في المنطقة وأنها تستهدف غربي القدس التي سيطرت عليها (إسرائيل) منذ تأسيسها، وإذا تم طرحها على أنها لا تؤثر على الوضع المتنازع عليه للأماكن المقدسة، فمن المرجح أنهم سيتفهمون هذه المبادرة ولن يعارضوها بقوة.