لم يكن تصريح رئيس الحكومة محمد اشتية موفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز" بأنّ انهيار السلطة محتملٌ خلال نحو شهرين، وأنها قد تلجأ إلى تسريح عناصر الشرطة في تلويح حول عدم إمكانية استمرار التنسيق الأمني، لأن رئيس الحكومة مطالب باتخاذ القرارات، ووضع الحلول للمشاكل والقضايا المختلفة، من خلال إدارة موارد الحكومة ومصاريفها، وباللجوء، خصوصًا في الأزمات، إلى استنفار الكفاءات والإمكانيات المتاحة بالحد الأقصى، وليس منافسة المحللين السياسيين.
يهدف حديث اشتية عن احتمال انهيار السلطة والتلويح بوقف التنسيق الأمني إلى حث (إسرائيل) والحريصين على بقاء السلطة، عربيًا ودوليًا، على التحرك لإنقاذها قبل فوات الأوان، وهو لن يجدي نفعًا، لأن (إسرائيل) مشغولة بالانتخابات وتشكيل الحكومة القادمة حتى تشرين الثاني القادم، ولن تتراجع عن القرصنة، على الأقل حتى ذلك التاريخ، كما أن العرب لم يوفروا شبكة الأمان المالية بشكل كافٍ. أما الإدارة الأميركية فأوقفت الدعم المالي عن السلطة ووكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، فضلًا عن أن الحديث عن انهيار السلطة يزيد من مخاوف الفلسطينيين من المصير الذي ينتظرهم.
سيحاول هذا المقال الإجابة عن سؤال: هل سيناريو انهيار السلطة قائم؟
إنّ انهيارَ السلطة محتملٌ، ووقوعه يتزايد، كون القرصنة الإسرائيلية تترافق هذه المرة مع انسداد تام في الأفق السياسي، ومع استمرار وتفاقم الانقسام الفلسطيني، وتسارع التطبيع العربي مع (إسرائيل) قبل التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، وانتقال إدارة دونالد ترامب من الدعم الأميركي التقليدي لإسرائيل إلى دعم الاتجاهات الأكثر تطرفًا فيها، ومع الشروع في تطبيق الخطة الأميركية الإسرائيلية (التي تسمى "صفقة القرن")، الرامية إلى تصفية الحقوق الفلسطينية (تقرير المصير، والعودة والاستقلال الوطني، والمساواة والعدالة) بعد أن سيطرت (إسرائيل) على معظم الأرض، وشرعت في التخطيط والعمل والتمهيد لضم أجزاء من الضفة الغربية، بدءًا بضم المستوطنات، ووصولًا إلى ضم المناطق المصنفة (ج)، وما يتطلبه ذلك من استكمال تجميع الفلسطينيين في معازل، وتسهيل تهجيرهم إلى الأردن وسيناء وبلدان لجوء جديدة، ليصار في مرحلة لاحقة إلى تهجيرهم، وخصوصًا إذا توفّر الظرف المناسب.
كما أنّ انهيار السلطة محتمل كون الخطة الأميركية الإسرائيلية تريد سلطة جديدة تقبل أن تكون حكمًا ذاتيًّا خاضعًا للسيادة الإسرائيلية، ولا تلعب أي دور سياسي، وتكفّ عن المطالبة بالحقوق الفلسطينية، وتقبل أو تتعايش مع الحقائق التي أقامها الاحتلال وسيقيمها خلال السنوات القادمة. لذا، فالمطلوب تغيير الحل الانتقالي الذي جسّدته "سلطة أوسلو" على سوئها إلى تجسيد الحل النهائي من خلال إقامة سلطة جديدة تقبل أو تتعايش على الأقل مع إقامة "إسرائيل الكبرى" على كامل فلسطين التاريخية.
من الناحية النظرية، يمكن استكمال تحويل السلطة لتحقق الهدف المطلوب منها، وإذا لم تستجب يمكن فكها وإعادة تركيبها من جديد، أو حتى إقامة سلطة أو سلطات جديدة تناسب مرحلة تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، وفقًا لخطة "الإمارات الفلسطينية" التي اقترحها الباحث الصهيوني مردخاي كيدار. الأزمة هذه المرة أكبر من سابقاتها، ويجب التعامل معها على هذا الأساس.
إذا بقيت العوامل التي تؤثر على الوضع الفلسطيني كما هي عليه الآن، وإذا تفاقمت أكثر؛ فإن انهيار السلطة لا يبقى مجرد احتمال، بل يصبح مرجحًا. وما يعزز هذا الاحتمال أن السلطة تدير الأزمة بشكل سيئ، وتتعامل معها كأنها أزمة قرصنة مالية فقط وسرعان ما ستتراجع عنها (إسرائيل).
ولعل هذا ما يفسر اتخاذ الرئيس محمود عباس قرارًا بعدم استلام بقية أموال المقاصة احتجاجًا على خصم الأموال المخصصة لعائلات الشهداء والأسرى. فهناك رهان فلسطيني على أن الحكومة الإسرائيلية التي ستشكل بعد الانتخابات، خصوصًا إذا نجح خصوم بنيامين نتنياهو، ستعيد الأموال غير منقوصة، لأن السلطة والدور الأمني الذي تقوم به تحقق مصلحة إسرائيلية لا يمكن بسهولة الاستغناء عنها، ولم يكن في الحسبان ما وقع من حل الكنيست المنتخب والدعوة إلى انتخابات جديدة، ما يعني أن إيجاد حل لقطع الأموال من المقاصة لن يجد حلًا إلا بعد خمسة أشهر.
وهنا، لا بد من التحذير من الاطمئنان إلى أن (إسرائيل) ستعيد الأموال، عاجلًا أم آجلًا، متناسين أن القرار الإسرائيلي بالقرصنة على الأموال الفلسطينية جاء في السياق الذي أشرنا إليه آنفًا، ولم تتخذه الحكومة مثلما فعلت أكثر من مرة في السابق وعادت عنه عندما أرادت، وإنما جاء تطبيقًا لقانون أقرّه الكنيست، والتراجع عنه بحاجة إلى تغيير أو تعديل القانون في الكنيست، وهذا أمر لا أقول إنه مستحيل، بل صعب، وبحاجة إلى وقت، خصوصًا أن الكنيست القادم، كما تشير الاستطلاعات، سيكون أكثر تطرفًا من المنحل.
هناك نقطة أخرى لا بد من إبرازها، وهي حالة التناقض ما بين الرهان على وقف القرصنة، والحديث عن وضع الآليات لتطبيق قرارات المجلس الوطني التي يعني تطبيقها تغيير قواعد اللعبة برمتها، ولو كان هذا الأمر واردًا في حسابات القيادة والسلطة لكان مفهومًا رفض استلام أموال المقاصة منقوصة، وكان يتطلب أن يكون جزءًا من إستراتيجية جديدة فاعلة وليس محكومة بردود الأفعال.
هل هناك بديل؟
نعم، هناك بديل قادر على الحفاظ على القضية الفلسطينية وإحباط المخططات التي تستهدف تصفيتها، وعلى رأسها "صفقة ترامب"، ولكن له مستلزمات يجب توفيرها، وهي غير متوفرة حتى الآن، وهي:
أولًا: بلورة رؤية شاملة وإستراتيجية سياسية ونضالية جديدة، وتوفر الإرادة السياسية لتطبيقها، وما يتطلبه ذلك من إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، التي من دونها لا يمكن حشد واستنفار جميع طاقات وإمكانيات وقوى الشعب الفلسطيني في مواجهة المخاطر التي تواجه القضية الفلسطينية، والتقدم على تحقيق الأهداف والحقوق الوطنية. وهذا يتطلب وقف الرهان والأوهام حول إمكانية تجديد العملية السياسية، وعلى احتمالات التغيير في (إسرائيل) والولايات المتحدة، فمن يراهن على غيره يخسر، ومن يراهن على شعبه ينجح، ويكون في هذه الحالة قادرًا على التأثير على الآخرين.
ثانيًا: التعامل مع الأزمة المالية باعتبارها ليست مالية أساسًا، ومختلفة عن سابقاتها، وأن جذرها سياسي مستمد من السعي لإدامة الاحتلال وتصفية الحقوق الوطنية مقابل رشوة مالية بسيطة.
في هذا السياق، يهدف حكام واشنطن وتل أبيب إلى استكمال تحوّل السلطة الذي بدأ بعد عام 2000، كما ظهر في اقتحام المدن الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الراحل ياسر عرفات واغتياله، إلى سلطة حكم ذاتي من دون دور سياسي. وبالتالي، فإن حل الأزمة ليس حلًا فنيًا ولا ماليًا فقط، وإنما سياسي أساسًا، ولا تتحمل مسؤوليته الحكومة وحدها ولا السلطة، بل الكل الفلسطيني، لذا فإنّ الغرق في إيجاد حلول للأزمة المالية من خلال الاقتراض من البنوك والقطاع الخاص ومن المؤسسات والدول العربية والأجنبية؛ يزيد الأزمة تفاقمًا، ويتجاهل أسبابها وجذورها.
ثالثًا: إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني أينما تواجد، وليصار إلى تفعيلها وتجديدها وإصلاحها بشكل كامل، على أن تتوزع دوائرها وقياداتها على مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، ولتكون قادرة على الحلول محل السلطة، أو إيجاد البديل عنها لتصبح أداة من أدوات المنظمة وفي خدمة البرنامج الوطني. أما المنظمة بوضعها الراهن فحالها أسوأ من السلطة ولا توفر البديل المطلوب.
رابعًا: يمكن أن تذهب السلطة إلى الجحيم إذا توفّر البديل عنها، لأن انهيارها من دون بديل يمكن أن يؤدي إلى الفوضى والفلتان الأمني وتعدد السلطات، وهذا لا يساعد على انطلاق الانتفاضة والمقاومة الشاملة، وبالتالي يجب العمل على بناء البديل، وإلى حين ذلك يمكن المرور في مرحلة انتقالية تتضمن إعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها وموازنتها لتستجيب للاحتياجات الفلسطينية. فعلى سبيل المثال لا حاجة لِأنْ يأخذ الأمن نسبة تراوحت من 23-36 بالمئة من موازنات السلطة في حين يخصص للزراعة 1 بالمئة، بحيث يتم تخفيض موازنة الأمن، وتخصيص موازنات مناسبة للزراعة والصناعة والسياحة الداخلية والتعليم والصحة، ودعم صمود المناطق المهمشة والمعرضة للمصادرة والاستيطان والضم والحصار، إلى جانب وضع خطة تقشف حقيقية، ومكافحة الفساد وسوء الإدارة.