إن ما حدث في ليلة الثلاثاء الأخيرة من شهر رمضان الماضي من فوضى ولغط شديدين حول رؤية هلال شوال وانتهاء الصيام، إن ذلك ما كان ليحدث لو تعامل الناس مع الأمر بموضوعية وشيء من العقلانية، لكن ما بدا في تلك الليلة إنما كان صورة من الفوضى، والجهل بأحكام استطلاع الهلال، إضافة إلى المزاجية والنظرة الحزبية للأمر، ثم في البداية هوسٌ من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصًا هوس الأخبار العاجلة.
وبناء عليه نشأت مجموعة من القضايا الفقهية رأيت ضرورة بيانها في هذه العجالة كي تكون تلك الليلة درسًا نرجو الله تعالى ألا يتكرر.
والقضية الأولى التي يجدر بنا الحديث عنها هي كيفية إثبات الهلال، ومن هو الذي يعلن عن رؤية الهلال ويأذن للناس بالصوم أو الإفطار، ولن أقول في هذه المسألة برأيي؛ بل أترك الأمر لما حملته لنا كتب السنة من آثار وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، ومنها ما ورد في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا". ولو تأملنا هذا النص بهدوء فإننا نصل إلى:
أولًا: إن الشرع قد أوجب إثبات صيام رمضان والفطر بعده بأمرين:
الأمر الأول: رؤية الهلال: حيث قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، والخطاب موجه لعامة دول المسلمين، وليس لدولة بعينها، وعليه فكل من يرى هلال رمضان وجب عليه الصيام، وكل من رأى هلال شوال وجب عليه الفطر.
الأمر الثاني: عند عدم رؤية الهلال في الليلة الثلاثين من شهر شعبان أو الليلة الثلاثين من شهر رمضان، فإن علينا إكمال الشهر ثلاثين يومًا، وعليه ففي هذه الحالة –حالة عدم رؤية الهلال– يجب إكمال شعبان ثلاثين يومًا وكذلك إكمال رمضان ثلاثين يومًا.
هذا ما يُفهم ببساطة من النص ولا يحتاج إلى عناء في الفهم.
ثانيًا: لم يخالف أحد من الفقهاء بأن الرؤية المقصودة في الحديث السابق هي الرؤية بالعين المجردة، وليس بأدوات الرصد الاصطناعية والحديثة، مع تسليمنا بأن الله تعالى يعلم أن البشر سيصل بهم الأمر إلى امتلاك هذه الوسائل التي يمكنهم بها رؤية الهلال بسهولة ويسر، فلو كانت الرؤية تشمل العين المجردة وهذه الأدوات لأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك؛ ذلك أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ثالثًا: إن الموكل بإعلان الصيام أو الفطر منه بعد ثبوت الرؤية، أو إكمال الشهر ثلاثين يومًا، إنما هو (ولي الأمر)، المتمثل اليوم في المفتي العام أو دور القضاء كما هو الحال في بعض البلاد الإسلامية، ودليل ذلك حديث بن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله إني رأيت الهلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، فقال له: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا"، ومثله حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال" -أي أخذوا ينظرون في السماء بحثًا عنه- "فرأيته، ثم أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه"، فكلا الحديثين يدل على الذي يعلن الصيام ويأذن به هو ولي الأمر، وليس أحد غيره، هذا في عهد الصحابة رضي الله عنهم وهم أعلم وأعرف منا بهذا الشأن، حيث أخبر ابن عمر النبي عليه السلام عن رؤيته للهلال، وكذلك فعل الأعرابي، ولم يقُم كل منهما بتصدير خبر عاجل على وسائل التواصل الاجتماعي بأن له السبق في رؤية الهلال؛ بل رجع كل منهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: في النص دلالة واضحة على أن المعوّل عليه هو الرؤية وليس مجرد التوقع بأن الهلال قد يولد؛ بدليل قوله في نفس النص: "فإن غُمّ عليكم" وفي رواية "فإن غُبَّ عليكم" وفي رواية "فإن غبيّ عليكم" وفي رواية أخرى "فإن حالت دونه غياية" وفي رواية أخرى "فإن حال بينك وبينه سحاب أو قترة فأكملوا العدة ثلاثين"، والغياية هي السحاب أو كل ما يمكن أن يحجب القمر عن الرؤية.
وخلاصة ما يُستفاد من هذه الروايات المتعددة أن الصوم يجب برؤية الهلال كما قدمنا، وعلى ذلك فقد يكون القمر موجودًا لكن تحجبه سحب كما في الرواية الأخيرة، أو يحجبه غبار أو عدم صفو السماء كما في غالب الروايات، وبسبب ذلك لا يتمكن من رؤيته أحد، فرغم ذلك يجب إكمال الشهر ثلاثين يومًا.
خامسًا: إذا كان الأمر منوطًا برؤية الهلال، إذًا ليس شرطًا أن تصوم كل الدول الإسلامية في آن واحد، أو لأن بعضها قد رآه؛ وهذا قد وقع في عهد صحابة رسول لله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت ذلك بالحديث الصحيح، أختصره إذ المقام لا يسمح بنقله لطوله، وهو ما يعرف بحديث كريب قال: رأيت الهلال وأنا بالشام، ولما قدمت المدينة سألني ابن عباس متى رأيتم الهلال بالشام؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس: أما نحن فرأيناه ليلة السبت، فقلت: ألا تكتفون برؤية أهل الشام؟ قال: لا، هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصد بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، ولا أعتقد أننا أكثر فهمًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أكثر حرصًا منهم على وحدة المسلمين.
يتبع