قائمة الموقع

"محمد" لم يجد سوى قبري عائلته لمواساة وحدته

2019-06-02T09:06:54+03:00

لم أتخيل يومًا أن تأتي اللحظة التي أجدني فيها وحيدًا أكمل طريق حياتي بلا أب ولا أم ولا أخ، فجميعهم قد رحلوا بلا عودة، لم يبق منهم سوى الذكريات، اغتالتهم طائرات الاحتلال الإسرائيلي دون إنذار، أزهقت أرواحهم ولم يبق من أجسادهم سوى بعض الأشلاء المتناثرة بين أكوام الدمار والركام؛ بأي ذنب قتلوا؟!، سؤال أبحث عن إجابة عنه في ضمير كل إنسان حر في هذا العالم، ما ذنبي أن أكمل حياتي وحيدًا دون أسرتي وعائلتي؟!

أول ليلة..

كانت الليلة الأولى دونكم كئيبة، لم أجد سوى الدموع لتواسي حسرتي وألمي وقلبي المنهك بجرح ليس له دواء؛ مضت تلك الليلة بطيئة، كانت الدقائق حارقة، تكويني نار الفراق، أتأمل حينما كانت أمي تأتي وتتفقدني في الليل، وسؤال أبي عن أحوالي، وأخي عبد الرحمن الذي لا ينام دون أن أكون بجواره ليستأنس بي، لكن بمن أستأنس الآن؟!، كيف ستمتلئ هذه الوحدة؟!، كانت تجتاح تلك الأسئلة تفكيري، ولا أجد لها أجوبة سوى دموعي.

في تلك الليلة شعرت وكأن الدموع ستصبح ضيفي الدائم وملاذي حين تجوب الذكرياتُ عقلي، كنت أستمع لدقات قلبي دقة دقة، وكأن هناك جرحًا يخدشه ببطء يمزقه وهو يغوص في أعماقه، في لحظة كان والداي يخططان لأن يفرحا بي؛ لكني أجبرت على إكمال الحياة وحيدًا يتيمًا، لم يبق لي في الحياة سوى شقيقتَي المتزوجتين، اشتقت من أول ليلة فراق إلى صوت والدتي الحنون، لعل بعض صدى ذلك الصوت يبرد من نار الفراق التي أضرمها الاحتلال في قلبي، بعد استشهاد والدَي وشقيقي بقصف طائرة إسرائيلية لشقتنا السكنية بأبراج "الشيخ زايد" شمال القطاع.

قبران يخففان الوحدة

أشرقت شمس الحزن في اليوم التالي 6 أيار (مايو) 2019م، لأبحث عن رفاتهم، فلم نجد إلا بقايا أجسادهم، واريتهم الثرى في قبرين، كنت أتمنى أن أكون معهم وليس وحيدًا دونهم، أخاطب روحهم وأنا أقف على قبرهم، من سيداوي جراحي يا أبي؟!، مع من سألهو وأرسم لوحة سعادة وابتسامة قبل نومي يا عبد الرحمن؟!، لمن سأشكو همومي يا أمي؟!، كيف تغادرون الحياة وتتركوني وحيدًا أصارع بمفردي وكأني هرمت وأنا في ريعان الشباب؟!

ينظر المعزون إلي في مراسم بيت العزاء، ولا يعرفون أن الذي يقف أمامهم جسد شارد الزهن، فروحي متصلة بأهلي، ما زلت لم أستوعب ما حدث وأن عائلتي رحلت، كنت أنتظر عودتهم، لسماع صوتهم قادمًا من بعيد، لا يزال صوتك يا أمي في المكالمة الهاتفية الأخيرة بيننا: "لا تتأخر، ارجع للبيت" يتردد في أذني.

ربما لن تسمعني، ربما لن يصلها صدى صوتي، ستبقين يا "أمي" حية في قلبي لؤلؤة وقودها الحب، شمعة من نور لا تنطفئ، ولا تطويها ذكريات الأيام، لا تغلف بصندوق النسيان، ولا يركن حبها في الأدراج، كبحر متجدد لا ينتهي.

تمهل يا أبي، أتتركني وحيدًا تتقاذفني الحياة، دون ظلك، دون همسك ونصحك؟!، أحتاجك ولا أجدك، أطلبك ولا تأتي، فقط كل ما أعرفه الآن هو رحيلك.

في الحياة يصدأ "الشوق" كالحديد ما لم يستخدمه الإنسان ولم يخرج أجيج قلبه، فكيف أنساك؟!، تمر الأيام وما زلت لا أصدق أنني وحيد دون عائلة، ينظر الجميع إلي بعين الشفقة والعاطفة، أقرأ هذه النظرات في عيونهم، ومحاولاتهم المستمرة للوجود بجانبي، ومساندتي في هذه الحياة والسؤال عن أحوالي.

ظلت نيران الشوق مشتعلة بداخلي، بعد أن أصبح كل شيء بطيئًا، وأصبحت الدقائق والساعات حارقة، أكتوي بتلك الثواني، لتفيض عيناي اللتان لم تهدأا من التفكير، أحن لرؤيتهم، فلم أجد سوى القبر ليكون ملاذ حزني وألمي، أخاطب روحهم، أفيض بدموعي التي لن تجف، لم يعد لي توقيت لزيارة القبر، كلما باغتني الشوق، ولم أستطع تحمل وحدتي؛ أجد قدماي تذهبان بي إلى قبر عائلتي في الصباح أو المساء، أشعر أن هناك اتصالًا روحيًّا بهم لم ينقطع، وكيف له أن ينقطع وهم لم يغيبوا عن تفكيري لو لحظة واحدة؟!

المشهد الأخير

كل يوم أعيد مراجعة مشهد ما قبل القصف بلحظات، حينما صعدت على درجات سلم البرج وحدث الانفجار وأنا على درجات الطابق الثالث، انقشع غبار القصف بعد أن تغير كل شيء، فتدمر الطابق الخامس الذي ضم شقتنا، شاهدته استوى تمامًا بالطابق الرابع، رأيت الجيران يخرجون ويركضون يعتقدون أن القصف في الخارج، أكثر ما ندمت عليه أنني لم أسرع الخطوات لأرحل معهم، تمنيت لو أخرت الطائرات الإسرائيلية قصفها حتى أنال مما نالته عائلتي.

"بدنا نشوفلك زوجة تواسيك" حينما حدثني أحد الأصدقاء عن ذلك؛ تخيلت لحظة الزفاف وأنا أبحث في المدعوين عن والدتي ولا أجدها معهم، حينما ينادون: "يا أم العريس" أين ستكونين، يا "أمي"؟!، من سيرافقني في فرحتي ويسندني؟!، أين والدي، وشقيقي الوحيد؟!، أسئلة مرعبة تستوطن تفكيري وكأن الفرحة ستكون مراسم لتجديد أحزاني، في يوم الأم لمن سأقدم الهدايا.

أفتقد لمة أسرتي التي أصبحت شيئًا من الماضي، كنا أسرة صغيرة، يخاف بعضنا على بعض، نجلس معًا قبالة شاشة التلفاز، نذهب إلى صلاة التراويح، كيف كان والداي يتمنيان أن يرياني "عروسًا" ثم يفرحا بأطفالي، لكن رحيلهما كان أقرب من تلك الأمنية التي لم تتحقق.

من عجائب الأقدار أن يكون الخامس من أيار (مايو) 1991م يوم زفاف والدي، وأن يكون التاريخ نفسه من عام 2019م يوم استشهادهما ورحيلهما، اجتمع الفرح والحزن في يوم واحد، سيبقى الخامس من مايو يذكرني بكما.

وهكذا نسدل الستار على قصة عائلة أبو الجديان، التي استهدفتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي، استشهد رب الأسرة طلال أبو الجديان (46 عامًا)، وزوجته رغدة (40)، وطفلهما عبد الرحمن (12 عامًا)، وظل محمد (25 عامًا) الذي روى ما شعر به ويعيشه بعد فراق عائلته وحيدًا يتجرع مرارة الفراق وألم فقدانها، يصارع الحياة دون سند، ستمر الكثير من الأحداث والمناسبات والمواقف التي سيحتاج فيها محمد لوالديه، سينظر حوله، لكنه لن يجدهما، رحل والداه دون استئذان، حتى هما لم يعرفا أنهما سيرحلان، وأبقت له الحياة شقيقتيه المتزوجتين.

اخبار ذات صلة