فلسطين أون لاين

​غزة واختيارات وجودنا

...
علياء كنعان

يسعى الإنسان منذ ولادته لنيل حريّته بالقدر الذي يكبر فيه؛ لتكون "الحرية" على قدر وجوده! وجوده؛ أي قدراته الجسدية، والعقلية والفكرية والروحية. ويزداد حجم الحرية التي يريد طرديًا كلما "سما" هذا الوجود. ولأن الحرية -العُليا- إنما تبدأ باختيار ذاتي يرسمه الفرد بأدوات وجوده تلك، تصبح الرحلة لنيلها -أي الحرية- سلسلة من الخيارات، إما أخذ وإما ترك.

ولأني ذكرت الحرية مشفوعة بصفة "العُليا"، لا بد من وجود نقيضها؛ الحرية الدُنيا، وأعني بها الحرية المشوّهة التي لا يكون الهدف منها إلا "الخروج" عن المألوف أو لتفريغ عُقَد نفسية أو مخالفة لمنطق.. والله أعلم!، ومثالنا الحيّ على السعي للحرية، غزة. وفي كل حرب من حروبها التي لا تهدأ إلا لتبدأ، أسمع وأرى ذات التساؤل؛ أن لماذا كُتب على غزة أن تتلقى الضربات وحدها؟ صيغة ملؤها العتب والألم، وربما في شقٍّ آخر من الكوكب ملؤها الشماتة!

منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها غزة أن تنال حريتها وهي تدفع أثمان باهظة جدا مقابل نصر "مؤقت" بنظر محللين ومراقبين والعدو أحيانا، إلا أنها حققت ما لم تحققه دول تنعم بالمال والعتاد، وذلك لاختيارها أن تنال حريتها بالطريقة التي تتواءم وظروفها ومعطيات حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية.. إلخ، والتي لا يمكن لجهة أن تعرفها أكثر منها. ولأنها كانت على قدر هذا الاختيار، لم تألُ جهدا في خلق الفرص والإبداع في إيجاد السبل لتحقيق ما تريد. ولمن يعرف حسابات موازين القوى، سيعلم جيدا أن غزة في كل جولة كانت هي الكاسب الحقيقي.

وما نحن من غزة ببعيد، أنا وأنت، إنما "نحيا" على قيد حريتنا، هو ليس قيدا على الحقيقة، وإنما مفتاح جوهري لكينونتنا الحقيقية، التي تفسر أي تعب أو حزن أو غيرها من مظاهر "عدم الراحة" على أنها طريق وأدوات ينبغي أن نكون عرفناها مقدّما تبعا لاختيارنا.. لنكون أحرارا، تلك الحرية التي تقتات على وعينا بأنفسنا، على قدرتنا على الوقوف أمام خياراتنا بشجاعة وبنَفس طويل وقلب ثابت وعين بصيرة.

لا ترهقنا وحشة الطريق فالكل يريد أن يرى الصورة المثالية منّا - من وجهة نطره بالتأكيد-، ولا يثنينا تغيّر الأحوال، فكلها تأتي ملازمة لنيل حريتنا، أي ضرورة من ضروراتها. أما وسائل تحقيق تلك الخيارات فهي أكثر مما نتخيل لكن إيجادها بحاجة لإرادة حقيقية، فمن أراد استطاع!، ليست الخيارات عسلا مصفىً، بل تحمِل إلى جانب حلاوتها علقم تحقيقها، ولن يواجه مغارمها إلا أنا وأنت.

وكما في غزّة، نسمع ونرى من هم من نفس اللحم والدم يلوم مقاومتها بأن هي من "أحضر الدب لكرمه"، فيتجهمها الغريب ويتولى زمام الحرب عليها القريب! فهي لم ترضخ لحلول ظنها هؤلاء أنها نيلا لحرية! وأي حرية؟! سنواجه هذه الصورة، سنواجه من يعذلنا ويقاوم بعكس تيارنا شدّا بشدّ، وسنرى من هم في دائرتنا يحارب ضدنا لأننا لم نتبع أجندته، تماما كمن يغلق معابر غزة ويقول إنها "مصلحة"!

اختياراتنا تعني الشجاعة والشجاعة تعني تحمل ما يتبعها من مغارم، أي أن نتحمل المسؤولية كاملة بمرّها قبل حلوها، والمسؤولية الحقيقية هي جوهر وجودي ووجودك؛ أنا أختار إذن أنا موجود.. ولا عزاء للجبناء!


الجزيرة نت