يمسك إبريقًا نحاسيًا ويضع أمامه موقد نار عليه آنية ماء متوسطة الحجم، يحركها حتى تغلي فيضيف إليها القهوة، فيلتف الناس على شكل حلقة دائرية حول صباب القهوة بمسيرات العودة شرق غزة محمد الحلبي (62 عامًا) المكنى "أبو عمر"، ويستمر بسكب القهوة في كأس كرتونية صغيرة؛ وكلما فرغت الحلقة المتجمعة من الناس تأتي غيرها حتى تفرغ الآنية الأولى ويغلي أخرى، وثالثة.
هذا المشهد يتكرر كل جمعة منذ انطلاق مسيرات العودة في 30 مارس/ آذار 2018، فينتهي اليوم وقد شرب من قهوته نحو 3 آلاف شخص، يعود إلى منزله سعيدًا بما صنعه.
بداية الفكرة
الحلبي الذي يعمل تاجر قماش، ويسكن في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، شارك كغيره من أبناء غزة في مسيرات العودة للمطالبة بحياة كريمة وتأكيد تمسكهم بالثوابت. في أول الجمع منذ انطلاقة المسيرات كان يغلي القهوة في آنية أصغر حجمًا، ويسكبها بعد غليها في فناجين بلاستيكية، ولما زاد العدد تبنت لجنة إصلاح منطقته المبادرة وطورتها.
على يمين المنصة المخصصة للفعاليات في مخيم "ملكة" شرق غزة، يجلس الحلبي كل جمعة، يقدم القهوة للمشاركين، الذين يمرون عليه واحدا تلو الآخر قبل الجلوس على الكراسي المخصصة للمشاركين، حتى قيادات الفصائل، الجميع هنا يعرفه، ويتسابقون لتذوق قهوته.
إحياء التراث الفلسطيني، هدف الحلبي من مبادرته التي انطلقت في اليوم الأول للمسيرات، فكثيرًا ما كان والده الذي عاصر النكبة يحدثه عن أيام "البلاد"، وعن عادات أهل بئر السبع، فما يعرف لديهم بـ"الكانون"، وإبريق القهوة، والخيمة التراثية المطرزة، هي تقاليد تميزوا بها، يتمسك الحلبي بها ويضعها في منزله، أعاد إحياءها.
وبدت علامات الإرهاق واضحة على الحلبي عكستها ملامح وجهه المجهدة، وقد أخذ قسطاً من الراحة بانتظار غليان الآنية الثانية، وهنا بدأ حديثه مع صحيفة "فلسطين" قائلا: "هذه المبادرة لإحياء التراث الفلسطيني، وأنا سعيد بهذا العمل ولا أخجل من سكب القهوة للمشاركين رغم أنني تاجر ولدي عمل والتزامات أخرى حتى باتت هذه المبادرة جزءًا من حياتي لا أستطيع التخلي عنها".
بدا سعيدًا بما يقوم به، رسمتها ابتسامته واعترف "تعودت هذا الأمر (...) أقضي كل جمعة منذ عام في تحضير أدوات المنزل، بمساعدة زوجتي وأبنائي، وفي صب القهوة للمشاركين؛ فلدي التزام كامل تجاه الأمر وسعيد أن أقدم شيئًا لأبناء شعبي".
من أكثر الجمع صعوبة التي مرت على الحلبي أو كما يعرف بصباب القهوة، في ذكرى دخول مسيرات العودة في عامها الثاني بثلاثين مارس/ آذار الماضي يومها كانت الأجواء ماطرة، وكان الإقبال عليه كبيرًا من المشاركين، حيث قدم نحو 5 آلاف كأس قهوة، لا ينسى ذلك اليوم "كنت مضغوطًا كثيرًا، بمجرد ما تغلي آنية أضع أخرى، يومها عدت مريضًا إلى البيت".
هذا الرجل الذي يسكب القهوة للمشاركين، هو تاجر قماش معروف، بدأ العمل بمهنة الخياطة منذ عام 1982م، كان لديه محلات ومصانع خياطة، لكن ظروف الحصار والاحتلال أدت إلى تعطلها، لكنه استمر في تجارة القماش.
وكان الحلبي اعتقل لدى الاحتلال لمدة خمس سنوات، في حين اعتقلت شقيقته فاطمة 9 سنوات وأبعدها الاحتلال، وشقيقته رجاء إحدى قيادات العمل الوطني النسائية.
"نحن أصحاب حق وهذا الحق واضح للجميع، ثابتون على القضية الفلسطينية لن نتزحزح عن هذا المسار والثبات، حتى استرداد حقوقنا" بهذا انتهت جلستنا قرب موقد النار، وبدأ في غلي الآنية الثالثة.