بصوته التَعِب تمتم آخر كلماته "الحمد لله"، ثم صعدت روحه إلى خالقها، بعد إطلاق جهاز قياس النبض صرخته التي اخترقت قلب والدتِه أم أحمد ليعلن للملأ استشهاد الصحفي أحمد أبو حسين.
في منزله بمخيم جباليا شمال قطاع غزة، وبين صوره التي تكسو جدران المكان، تروي والدته لصحيفة "فلسطين" قصة نجلها البكر أحمد الذي شارف عام على استشهاده بعد معاناته على إثر إصابته المباشرة في أثناء تغطيته مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية شرق جباليا شمال قطاع غزة.
ابتسامة خفيفة وعيون دامعة، كست وجه أم أحمد وهي تتذكر أيام طفولة نجلها الشهيد، فهو الهادئ، صاحب الوجه الباسم والضحكة الجميلة، فاكهة المنزل كما ينعته أقرباؤه، الطفل خفيف الظل كما تقول.
أحمد نشأ يتيم الأب عندما كان يبلغ 12 عامًا من عمره، فقد فارق والده الحياة، ليعيش همّ الحرمان ودور السند لشقيقته وشقيقه الصغير، لكنه كان على قدر من المسؤولية كما تروي الوالدة بصوت خافت، دون أن تفارق "الله يرضى عنه" كلماتها.
وتقول: إن أحمد كان يعشق العمل الصحفي من صغره، دائمًا ما يحاول توثيق اللحظات والتقاط صور مفعمة بالحياة، ويحاول إبراز الجمال والحياة في ظل الألم الذي تعيشه غزة بسبب الحصار، وكان يحب صناعة الكثير من الأشياء الفنية بيديه.
وبحسب نضال الأخ الأصغر لأحمد ورفيق دربه في غرفته الأشبه باللوحة الفنية، فإن شقيقه يحب تربية الطيور والحيوانات الأليفة ويعتني بها بشكل خاص يوميًا فوق سطح منزلهم.
وتذكر الوالدة أن ابنها كان "كل يوم عند الاستيقاظ، يشرب القهوة ويأكل أي حاجة حلوة وينطلق عند الحمام والعصافير، يجلس بصحبتها لساعات"؛ حسب تعبيرها.
الجمعة الأخيرة
على غير العادة استيقظ أحمد مبكرًا يوم الجمعة التي أصيب بها، قبل ذهابه لعمله، أعد القهوة مشاركًا خالته بعض الأحاديث، وبطبيعته تفقد الطيور التي كان يربيها، وذهب لشقيقه يوقظه ويقول له ضاحكًا: "اصحى أنا اليوم شهيد"، وذهب لتغطية مسيرات العودة في جمعتها الثالثة، دون أن يخطر لهم أنها آخر كلمات أحمد في البيت.
شارك أحمد قبل بدء الفعاليات بوقفة احتجاجية ضد استهداف الصحفيين ومنهم الشهيد ياسر مرتجى الذي كان قد ارتقى قبلها بأسبوع، وأصيب أبو حسين في يومها، وبدأ يتربص صورة لالتقاطها بين زملائه.
وقد أصيب ظهر الجمعة الثالثة التي أطلق عليها "جمعة رفع العلم الفلسطيني" بعيار ناري متفجر أطلقه قناص إسرائيلي صوبه مباشرة، خلال تغطيه فعاليات مسيرات العودة الكبرى.
كانت عائلة أحمد تستعد للخروج من منزلها للمشاركة في عرس لأحد أفراد العائلة، فجاء الخبر سريعًا كالصاعقة كما تقول: "أحمد مصاب في مستشفى الإندونيسي وحالته حرجة"، حتى خروجه للعلاج في الضفة ومن ثم لمستشفيات الداخل المحتل سنة 1948.
كان الصحافي أبو حسين، نُقل فور إصابته لمستشفى الإندونيسي في شمال قطاع غزة، ثم نقل بعد يومين من إصابته لخطورة حالته إلى مشفى رام الله، قبل أن ينتقل إلى أحد مشافي الداخل المحتل المتخصصة للعلاج هناك.
الفريق الطبي في رام الله أجرى له عملية جراحية بمشاركة 10 أطباء في محاولة لإنقاذ حياته، لكن أحمد كان لا يزال في الغيبوبة التي دخلها منذ إصابته بالعيار الناري القاتل، وأمنيات الوالدة لم تتوقف.
وتضيف الأم: "الانتقال لمستشفيات الداخل أمر كان يحتاج لمخاطرة، خصوصًا في ظل وضعه الصحي المتدهور، وما تعرض له من مصاعب في أثناء انتقاله عبر حاجز بيت حانون".
وتقول: "في اللحظات الأخيرة في رام الله استفاق ولدي وسألته "كيف حالك؟"، ابتسم وقتها وهز برأسه وتمتم وفهمت أنه يقول الحمد لله، قبل أن ينومه الأطباء مجددًا بسبب الوجع الذي كان لا يحتمله".
استمر التنويم الطبي لأحمد في مستشفى مسمى "تل هاشومير"، ونتج عنه عدم إحساسه بما يدور حوله، إلا أن الأم أكدت للأطباء بإحساسها بحركة في أطراف ابنها، ما قابله الأطباء باستحالة الأمر طبيًا وعلميًا.
ووفق ما تتحدث به أم أحمد لصحيفة "فلسطين"، فإنها كانت تُسمع نجلها بواسطة الهاتف المحمول آيات وسورًا من القرآن الكريم، كان يحب قراءتها دوريًّا، وكانت عيناه تدمعان عند سماعه صوت الأذان، رغم الغيبوبة الطبية التي قررها الأطباء.
تختم أم أحمد بتمتمات الرضا والرحمة لولدها، مضيفة: "في بيت العزاء شارك كثير من الناس أعرفهم ولا أعرفهم وجميعهم يذكرون مواقف حسنة في حياة أحمد، هذا يكفيني".