بعد أسبوع من التعب في قضاء المتطلبات الأسرية وضغوط الحياة العملية، يأتي اليوم الذي ينتظره بفارغ الصبر، ليروح عن نفسه عناء الأيام الماضية، وليعد عدته لجولته الأسبوعية في يوم العطلة، يحدد وجهته وطريق سيره، ويجهّز في الليلة السابقة مستلزمات رحلته: عدسته، وخيمته الصغيرة المتنقلة التي يحتمي بها ويختبئ فيها من الطيور والحيوانات، وبعض الكمائن الخضراء، ثم يبدأ ماراثونا يتسابق فيه مع خيوط شمس الصباح، وعند وصوله للمكان المحدد ينصب خيمته، أو يختبئ بين الأحراش الخضراء، ويفسح مجالًا فقط للعدسة لتستطيع التقاط ما ترصده عينه بكل صبر وروية، وتستمر هذه الرحلة مدة خمس ساعات، يقضيها دون حركة أو كلام أو حتى تناول للطعام، فما هو مسموح فقط إتمام عملية الشهيق والزفير، وفي بعض الأحيان يضطر إلى كتمان أنفاسه خاصة خوفًا من هروب الطير قبل الحصول إلى الصورة التي يصبو إليها..
"فلسطين" تسرد لكم حكاية المهندس عماد دواس، من مدينة طوباس، وتسأله عن شغفه بتصوير الطيور والزواحف البرية الذي دفع البعض لإطلاق لقب "القناص" عليه..
مرحلة تدريبية
في بداية حواره مع "فلسطين"، أراد ضيفنا أن يخبرنا أنه لا جذور لهواية التصوير عنده، لا في طفولته ولا في شبابه، فهو نشأ في بيئة طوباس الخلابة، وحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير من قسم الطرق والمواصلات بكلية الهندسة في جامعة النجاح، ثم درس الماجستير مرة أخرى من إيطاليا، ولاحقا نال درجة الدكتوراة من الولايات المتحدة الأمريكية، ويعمل حاليًا محاضرًا في الجامعة ذاتها.
ويسرد دواس: "لا أذكر شيئا في طفولتي عن علاقتي مع الطيور، ولكن في تلك الأيام كان من عادة الأطفال اللعب في الأماكن الطبيعية، وكنا كثيرًا ما نخالف تعليمات الأهل فنتجاوز الحدود التي كانوا يرسمونها لنا ويحذروننا من الوصول إليها، مثل مناطق الأحراش، وقمة جبل معين، لم نكن نلقي بالًا لهذه التعليمات، وكنا نصل إلى أبعد نقطة في الأحراش".
وبعد عودتهم، كان الأطفال يشعرون بنشوة الانتصار والإنجاز والفرح بعدما وصلوا إلى قمم الجبال، ليتباهوا في اليوم التالي أمام أصدقائهم في المدرسة بما فعلوه دون علم أهلهم، وكان دواس يفعل ذلك، لكن الطيور والحيوانات البرية لم تكن في دائرة اهتماماته آنذاك.
كانت بداية حمله لآلة التصوير في عام 2003 عندما سافر إلى إيطاليا للحصول على درجة الماجستير للمرة الثانية، فيقول: "كانت متوفرة بين يدي كاميرا عادية دون أي مميزات، وكنت للمرة الأولى أحمل كاميرا، وقد استخدمتها نظرا لغربتي، لكي أوثق جولاتي ورحلاتي".
لا يتمالك دواس نفسه أمام الطبيعة وجمالها، فهي تتمكن بكل سهولة، وتسحره بمناظرها الخلابة، ولذا كان ينهي "فيلمًا" في كل رحلة من رحلاته، وكان أصدقاؤه وزملاؤه في الدراسة ينزعجون من كثرة التقاطه للصور.
ويرى أن لجوءه للتصوير مقرون بحبه للتجول في المدن الإيطالية التي تتمتع بسحر خاص، وكان يفضّل أن يقوم بجولاته بمفرده دون اصطحاب أي من أصدقائه، بالإضافة إلى الرحلات التي كان يهدف منها التعرف على المناطق الجديدة، وفيما بعد، أصبح يصف هذه الفترة من حياته بأنها فترة ابتدائية لتعلم التصوير والتوثيق.
مصوِّر
وعند سفره إلى الولايات المتحدة لنيل درجة الدكتوراه، امتلك كاميرا رقمية، ومن خلالها تمكن من إحداث تغيير واضح في صوره، كما أنها أعطته متسعًا من الراحة والجرأة في التصوير، وشجعته على المزيد من الجولات، خاصة أنه كان في شمال من الولايات المتحدة حيث الطبيعة الخلابة.
ويوضح دواس أن الكاميرات والعدسات كانت كثيرا ما تغريه أثناء تواجده في أمريكا، ولكنه لم يتمكن من شراء واحدة، لأنها تحتاج ميزانية خاصة، ومن سوق الأشياء المستخدمة اشترى ناظورًا لمراقبة الطيور المحلِّقة.
وبحكم عيشه في مجتمع ريفي، فهو من عشاق الجولات والرحلات الاستكشافية، وبعد عودته أصبح حب الطبيعة بالنسبة له من المُسلمات، وزاد من ذلك أن مدينة طوباس التي يسكنها ذات طبيعة جميلة..
ومنذ ما يقارب ثلاثة أعوام، بعد عودته من الولايات المتحدة، بدأ باستخدام الهاتف الذكي في التقاط صور عفوية وتلقائية لأسراب الحمام، فأصبحت مشاهد الطبيعة بكل تفاصيلها تغريه لتوثيقها، ومن هنا بدأت رحلة عشقه لتصوير الطيور والزواحف البرية، وخصص لها رحلات استكشافية في أيام العطلة، رغم أنه لم يكن ضمن حساباته أنه سيُطلق عليه لقب مصور.
ويبين دواس أنه يخرج بمفرده للتصوير حتى لا يسبب إزعاجًا للطيور والحيوانات التي ينتظر منها الإشارة لالتقاط الصورة التي يريدها، وحتى يستطيع الوصول إلى لقطات احترافية وصور نابضة بالحياة، أما في الرحلات الاستكشافية التي يقصدها قبل يوم من ذهابه للتصوير بغرض التعرف على المكان، فمن الممكن أن يرافقه بعض أصدقائه، أو أبنائه.
الهندسة والطبيعة
استطاع أن يربط شغفه بالتصوير بمجاله الهندسي، وعن ذلك يقول إن المهندسين من أكثر الناس مسؤولية عن تدمير الطبيعة نتيجة التطور والتمدد العمراني، سواء كان ذلك على الجبال أو في المناطق السهلية، ولذا كثيرًا ما يراوده شعور بالذنب والمسئولية تجاه ما يرتكب من جرائم بحق الطبيعة.
كما أنه أصبح يربط الهندسة بالطبيعة من خلال طرح بعض النشاطات، كأن يبدأ محاضرته ببعض الصور التي تحبب الطلبة بالبيئة، وكذلك الخروج في جولات ميدانية لها علاقة بذلك.
ولم يقتصر دوّاس في التصوير على المشاهد الجميلة للطبيعة فقط، بل يلتقط بعدسته في بعض الأحيان صورًا سلبية تنغص عليه جو المتعة، ولكنه يهدف إلى إيصال رسالة من خلالها.
وبالنسبة لضيفنا، فإن "ثالوث الإبداع" مكون من الهندسة والتصوير والطبيعة، وقد دفعه شغفه في التصوير إلى تطوير نفسه من خلال الالتحاق بدورات تصوير احترافية، وتعرف على كثير من المصورين ليتعلم منهم، وذلك ليخدم عشقه للتصوير الذي أصبح بمثابة متعة السفر والتنقل.
ورغم جمال الصور التي يلتقطها وعفويتها، إلّا أن دواس لا يعتبر نفسه مصورًا محترفًا، لأن الاحتراف يحتاج إلى التفرغ، ولكن ما يقوم به هو تكريس وقت فراغه في الطبيعة لاهتمامه بها، وكما يقول: "في هذه المرحلة العمرية تشعر بضغط الالتزامات الأسرية والعبء التدريسي والبحثي، وبالتالي ليس من السهل إدارة وقت الفراغ".
رحلة التصوير
بعد صلاة الفجر من يوم العطلة الأسبوعية، يحمل دوّاس أمتعته ويخرج في رحلة التصوير التي تستغرق خمس ساعات متواصلة على الأقل، وبعد وصوله إلى المكان المقصود ينصب كمينه المحكم للطيور والحيوانات البرية، يجلس هادئًا في الكمين دون إصدار أي صوت، ولا يتحرك منه سوى عينيه الشاخصتين نحو الهدف لمراقبته، فهو لا يذهب إلى الطيور أو الحيوانات، بل هي من تأتي إليه لتظهر الصورة بكل تلقائية.
طريقة دواس الخفية في التصوير تكلّفه مزيدًا من الوقت، فعليه الانتظار كثيرًا ليصل إلى مراده، وعند وصوله للهدف يشعر بالفرحة والانتصار بعيدًا عن بيئة العمل والأسرة والإنجازات التقليدية، ويتصل بزوجته فرحًا يحدثها بما حصل معه وما وصل إليه.
وعلى النقيض تمامًا، قد ينهي بعض رحلاته دون الوصول إلى هدفه، فيشعر بخيبة أمل وحزن، ولكنه يدرك أنه في النهاية سيصل إلى هدفه، وأن ما يحدث معه هو جزء من المعادلة الحياتية.
ولا يكتفي بالتصوير في مدينة طوباس، بل يتنقل بين محافظات الوطن، كصحراء عرب الرشيد، ووادي قانا، وأريحا، وبرية القدس، ووادي حمد وقشدة، وفي هذه المناطق وغيرها يمعن النظر في الطيور والطبيعة الخلابة، تارة يوثق بعدسته البلبل الهندي الذي يمشي متبخترًا ونافخًا لريشه، وتارة أخرى يتحسر على التمدد العمراني الذي ينهش في الطبيعة.
طريقته في التصوير كما هي الطبيعة ليست أرضًا مستوية، لذا تواجهه عقبات بسبب نظرة الناس التي يشوبها الشك والريبة، ويظنون أنه يصور منازلهم ويتعدى على خصوصياتهم، إلى جانب المخاطر المحيطة بمنطقة الأغوار لاستيلاء الاحتلال عليها، فأكثر من مرة اضطر إلى إخفاء الكاميرا خوفًا من المصادرة.
ويوضح دواس أهمية مواقع التواصل الاجتماعي وأثرها الكبير في نشر ما يصوّره، فمن خلالها تعرّف على الكثير من المصورين البارزين من فلسطين والوطن العربي ومصورين عالميين، فاستفاد منهم وأثرى تجربته بخبراتهم، بالإضافة إلى الاشتراك في كثير من المجموعات العربية والعالمية للاطلاع على آخر أعمال المصورين، وكل هذا يخلق أفكارًا جديدة في التقاط الصور، والتعرف على الإعدادات اللازمة.
وبفعل مواقع التواصل أيضا، زاد عدد متابعي دوّاس، مما كان عاملًا محفزًا له على الاستمرار، فالصور التي تحظى بتفاعل كبير تشجعه على العمل بقدر أكبر، ومن ناحية أخرى فإن الانتقادات التي يتعرض لها تعلمه الكثير، وتفتح عينيه على أخطاء يجتهد في تجنبها لاحقا.
وينوه دواس إلى أن زوجته لها بصمة في التصوير، فهي تشاركه في اختيار الصور التي يشارك بها في المسابقات، وتتفهم غيابه لساعات طويلة عن البيت، لافتا إلى أن اصطحابه لأبنائه في بعض الرحلات الاستكشافية وسّع مداركهم في الطبيعة وأنواع الطيور، حتى أنهم أصبحوا يدخرون مصروفهم اليومي لشراء كاميرا تصوير خاصة بهم.
وشارك دواس في عدّة معارض ومسابقات محلية، ويطمح للارتقاء بنفسه ليصبح مصورًا محترفًا، وليتمكن من المشاركة في الفعاليات الدولية ويشقّ طريقه نحو العالمية، إلى جانب تنظيم معارض شخصية.