فلسطين أون لاين

​حدود "الجماعة الإسرائيلية"

...

رُبما تنطبق على رؤساء حزب "الليكود" الحاكم في (إسرائيل) قصة جحا الذي "كذب الكذبة وصدّقها" في كل ما يتعلق بفريتهم القائلة إن رؤساء حزب "أزرق أبيض"، الصاعد في استطلاعات الرأي العام، والمؤلف من تحالف ثلاثة رؤساء سابقين لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، يرسمون صورةً مضلّلة، وكأنهم شبيهون باليمين، لكنهم سيشكلون حكومة بدعم من الأحزاب العربية، مُكرّرين بذلك تجربة الحكومة التي أقامها يتسحاق رابين في تسعينيات القرن العشرين الماضي، ووقعت اتفاقات أوسلو مع الفلسطينيين، وحظيت بدعم ما عُرف باسم "الكتلة المانعة" التي ضمّت في حينه نواب حزبيْن عربيين كانا ممثليْن في الكنيست الإسرائيلي.

في السياق ذاته، تنطبق القصة عينها على صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية التي رأت، في مقال افتتاحي، أن هناك خطاً مباشراً يربط بين الشرعية التي منحها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إلى تعاليم الحاخام المُتطرّف مئير كهانا، ومحاولة نزع الشرعية عن أي تعاونٍ مع أعضاء الكنيست العرب، و"قانون القومية" الإسرائيلي. والقاسم المشترك بين هذا كله، برأي الصحيفة، هو وضع المواطنين العرب خارج الـ"ديموس" الذي أشارت، في معرض تعريفه، إلى أنه "الجمهور المُتمتع بحقوق متساوية والملائم لاتخاذ قرارات ديمقراطية"، كما لو أنهم جزء منه أصلاً. وثمّة في هاتين الحالتين ما يستلزم العودة إلى خصوصية تجربة "الكتلة المانعة" تلك، وما خلفته من مترتباتٍ ذات محمولاتٍ آنيّة، بمنأى عن قراءة النيّات الحقيقيّة لحكومة رابين، وجوهر أدائها حيال تلك الاتفاقات عموماً. وأول ما نصادفه لدى عودة كهذه أن ممثلي المجتمعين، العسكرتاري والديني، رأوا أن المعسكر السياسي الواقف وراء تلك الحكومة "أقدم على شقّ الشعب وارتبط بالعرب". وكشفت تصريحات كثيرين منهم عن تغلغل بُعد عِرقيّ في الخطاب العام والهوية الدينية ــ القومية، يضع علناً وصراحة "العِرق" قبل "الديموس"، ولا يقبل الحسم الديمقراطي لحكومةٍ منتخبة، إذا كان هذا الحسم يتناقض، من وجهة نظره، مع العناية الإلهية، وأنه منذ اللحظة التي كفّت فيها الدولة الإسرائيلية عن تمثيل اليهودية، كما يفهمها هؤلاء، فإن وجود هذه الدولة لم يعُد ذا أهميةٍ، إذ إن "خلود إسرائيل منوطٌ بخلود اليهودية"، على حدّ قولهم، حتى أن بعض الكنس توقفت في تلك الفترة عن تلاوة "دُعاء سلامة الدولة".

وكانت هذه التصريحات، حتى بموجب تحليل دراسات سوسيولوجية إسرائيلية، بمثابة محاولةٍ واضحةٍ لرسم حدود الجماعة الإسرائيلية ثقافياً وسط إقصاء أجزاء من المجتمع، وتعبير عن تفكير سوّغ اغتيال رئيس حكومة. ولم يكن محض مصادفة أن أول عبارة أطلقها قاتل رابين، فور القبض عليه في تظاهرة التأييد للحكومة في أكبر ميادين تل أبيب هي: "انظروا إلى الميدان، نصفهم هنا من العرب"!

ومنذ تلك الفترة، يطيب لممثلي "الليكود" العزف على النغمة الإثنية القومية، عبر الحديث عن تقارب مزعوم بين العرب ورجالات حزب "العمل" وكل من يقف على يسارهم. مثلاً، صرّح أريئيل شارون أمام الكنيست يوم 13 تموز/ يوليو 1992: "إن الأكثرية التي انتخبت رابين تراوح بين الولاء المشروط والعداء للدولة اليهودية وإنكار حقها في الوجود". وأعرب عن خشيته من أن رابين سيكون مضطراً إلى "إرضاء ورعاية" الذين أوصلوه إلى سدة الحكم، أي تلك الأطر السياسية التي تمثل السكان العرب، وترغب، بحسب قوله، "في تصفية إسرائيل عملياً. وكذلك القوى اليسارية اليهودية التي جعلت من نفسها، وهي تقاتل بجرأة لتصفية الطابع اليهودي لإسرائيل، جاريةً مخلصةً في خدمة القضية القومية العربية والعداء لليهود".

ويمكن أيضاً ملاحظة أن نتنياهو مضى شوطاً أبعد في الادعاء بشأن هذا "التحالف"، ومحاولة تكريس حدود الجماعة على نحو يخرج منها، ليس السكان العرب فحسب، إنما أيضاً من يصفهم بأنهم "حلفاؤهم اليهود". وحظيت هذه المحاولة بتأييدٍ واسع في أوساط المجتمع الإسرائيلي، وكان وقودها، ولا يزال، الزعم المكرور بأن اللهاث وراء اتفاقيات مع العالم العربي، وخصوصاً مع الفلسطينيين، ليس وصفةً مضمونةً للسلام، بقدر ما تضمنه القوة بالنسق المرجوّ.