دفعت الولايات المتحدة -بإدارتها الجديدة "اليمينية المتطرفة"- باتجاه عقد مؤتمر عن السلام والاستقرار في الشرق الأوسط بالعاصمة البولندية وارسو؛ رغم أن كثيرا من التسريبات الإعلامية تشير إلى أن وارسو لم تكن راغبة في عقد هذا المؤتمر بأهدافه المعلنة والخفية على أراضيها.
ولعل وارسو لها أسبابها القوية في ذلك، فهي تعلم بالتأكيد -أكثر من غيرها- أنّ الأهداف الحقيقية تتجاوز ما هو مُعلَن من بحث إمكانيات الاستقرار في الشرق الأوسط، وهي لا ترغب في أن تُعلن الحرب على إيران وحلفائها من فوق أراضيها، لما يستدعيه ذلك من مخاطر على مصالحها في المنطقة.
ومما يعزز ذلك الموقف أن الإدارة الأميركية الحالية المتطرفة، والتي تعمل -منذ استلامها زمام الأمور في البيت الأبيض- على تحطيم كل قواعد اللعبة الدولية، وهدم الأسس التي بُني عليها النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ قد تغادر في انتخابات قادمة وتترك كل من تعاون معها أو ساندها في مشاريعها التدميرية عارياً دولياً، فيتحمل كل تبعات هذه المشاريع والمخططات غير الناضجة وعديمة الأفق.
ولكن السؤال الأهم بهذه المناسبة هو: هل الهدف الأساسي من هذا المؤتمر هو محاصرة إيران باعتبار أنها السبب الأساسي لـ"عدم الاستقرار" في المنطقة؟ أم الإعلان عن "صفقة القرن" وشطب القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمتين العربية والإسلامية، واعتبار الاحتلال الإسرائيلي السبب الرئيسي لاستمرار الاضطرابات في المنطقة، والعنصر الأهم في بيئة الاستنزاف التي تعيشها وتعزيز أنظمة الاستبداد وقمع الشعوب، أم الهدف هذان الأمران معاً؟
بالتأكيد فإن الهدف هو الاثنان معاً، ولكن معظم المؤشرات والتحركات ومخرَجات المؤتمر تشير إلى أن الهدف الأساسي هو شطب القضية الفلسطينية وحرفها عن الأسس التي بُنيت عليها طوال سبعة عقود، والإعلان الرسمي الكرنفالي عن مرحلة جديدة من التعاطي مع هذا الملف، أهم بنودها هو قبول "إسرائيل" دولة طبيعية في المنطقة، بل وأكثر من ذلك اعتبارها قطب الرحى في قيادتها ووضع خططها، وتشكيل الأحلاف بناء على إعادة تعريف مكونات المنطقة وتحديد من هم الأصدقاء ومن هم الأعداء؟
صحيح أن الموضوع الإيراني محوري في النشاط الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، ومحاصرة هذا النشاط هدف كبير لهما، ولكن حتى هذا الهدف فإن الأساسي فيه هو خدمة بقاء واستقرار وهيمنة "إسرائيل" على المنطقة ومقدراتها. ثمّ ما هو المتاح فعله ضد إيران في المنطقة أكثر مما يُفعل حالياً، ولا سيما في ظل ضعف الدعم الدولي -وخاصة الأوروبي- للموقف والإجراءات الأميركية تجاه إيران.
ومن قال إن أميركا و"إسرائيل" غير معنيتين باستمرار هذا الموقف "غير المحسوم" إقليمياً، من أجل استمرار استنزاف الجميع بما يخدمهم مصالحهم في المنطقة. ثم إنّ متابعة السياسة الأميركية في المنطقة -وخاصة في مناطق النزاع: أفغانستان والعراق وسوريا واليمن- عكست رغبة وقدرة الطرفين (أميركا وإيران) على إدارة علاقتهما، بما يحقق مصالح الطرفين دون الوصول إلى مرحلة الصدام الكبير.
لكن في المقابل ركز الكثير من التصريحات -داخل المؤتمر وخارجه وفي اللقاءات الجماعية والثنائية- على التطبيع مع "إسرائيل"، وضرورة تجاوز الماضي "العقيم" والتطلع نحو المستقبل المشرق. كما أكد ذلك وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي في لقائه المباشر مع بنيامين نتنياهو.
بل إن كثيرا من المسؤولين العرب بدؤوا يتحدثون بشكل يحمّل الضحايا (الفلسطينيين والعرب) مسؤولية فشل عملية السلام وعدم الاستقرار واستنزاف مقدرات المنطقة، ويبرر لدولة العدو ليس فقط الاستمرار في عدوانها على شعبنا وانتهاك مقدساتها، بل و"تطنيشهم" والسير قُدماً في إعادة ترتيب المنطقة على أسس جديدة، بغض النظر عن قبولهم لها من عدمه، حتى أنهم تجاوزوا ما توافق عليه العرب أنفسهم في المبادرة العربية عام ٢٠٠٢، كشرط لتطبيع العلاقة مع "إسرائيل".
ولعل الصورة الختامية للمؤتمر التي يظهر فيها نتنياهو وسط الصورة متصدراً المشهد، والراعي الرسمي للحفل وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو عن يمينه، ومعظم الوزراء العرب يحتلون مواقع هامشية في الصورة؛ قد تعكس دورهم التبعي في المستقبل.
هل نجح المؤتمر أم فشل؟ المؤتمر نجح نجاحاً كبيراً في تحقيق الهدف غير المعلن، ألا وهو كسر كل "تابوهات" العلاقة بين العرب و"إسرائيل" وإعلان التطبيع الرسمي معها، وإعطاء دفعة كبيرة لصديقهم "الجديد" نتنياهو في معركته الداخلية.
ولكن على مستوى الأهداف المعلنة لهذا المؤتمر؛ نجد أن الإدارة الأميركية فشلت في الإعلان الرسمي لخطتها للسلام في الشرق الأوسط أو ما يسمى "صفقة القرن"، ولم يتم الإعلان عن أي خطوات حقيقية عملية جديدة في إطار مكافحة "التمدد الإيراني" في المنطقة.
ولعل من أهم أوجه فشل هذا المؤتمر إظهار التراجع الأميركي الكبير في التصرف كقوة عظمى، بل إنه عزز قول البعض إنّ معظم من قام على هذه الفعالية هم من هواة ومغامري السياسة الجدد.
واضح أن مؤتمر وارسو هو لحظة فاصلة بين مرحلتين في حياة المنطقة، والإعلان عن أنّ الهدف الرئيسي هو محاصرة إيران كان للتضليل فقط، لأنهم لم يعلنوا عن أي إجراءات ضدها أكثر مما يحدث الآن. لقد كان الهدف الحقيقي هو الصورة الختامية للمسؤولين العرب وهم يقفون صفا مع نتنياهو.
علينا كفلسطينيين -بعد هذا المؤتمر- تحضير أنفسنا لانكسارات جديدة في هياكل المنطقة، وأن نعيد التفكير في القيم والإستراتيجيات والأدوات التي بنينا عليها رؤيتنا لحل الصراع مع الصهاينة. وأن تكون البداية عندنا كفلسطينيين هي إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة، لحماية ما تبقى ومواجهة هذه الهجمة الجديد.
إن أملنا كبير في أنّ أمتنا وشعوب المنطقة -التي هي الهدف الحقيقي من كل هذا الحراك وليس الحكام- أكبر وأوعى من أن تمرر مثل هذه المؤامرات، وستُفشلها كما أفشلت غيرها من المؤامرات، بوقف حالة التدمير الذاتي العبثية الحالية، واستعادة الوحدة على قاعدة أنّ ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا، وأن عدو المنطقة المركزي كان وسيبقى هو الكيان الصهيوني. وستبقى فلسطين بوصلة الأمة و"ترمومتر" صحتها وعافيتها، وعنوان وحدتها ونهضتها.