فلسطين أون لاين

​حنينٌ وأسى يترجمهما مداد المرابط عياد

...
غزة- إيمان شبير

خلف أسوار السجن يشتعلُ النوى بجمرِ الشوقِ مُهجة الأسير، ويُعانقُ طيف أحبابهِ بين أهدابِ حنينٍ مجروح، يراقصُ وحدته ويمتطي صهوة الذكرى وسطَ عتمةِ الأسر التي نهشتْ من ضلوعهِ وتسللتْ إلى ملامحهِ التي تأبى ذلّ الأسرِ والانكسار.

فالإنسان الأسير حياته ما بين أسرٍ وتعذيب، ما بين نورٍ وعتمة، وما بين مقاومةٍ ومعركة، وبين انتصارٍ وانتصــار! كحياةِ الأسير المحرر "محمود عياد" التي نضجت زهرة شبابه في الأسر.

بداية حكاية الاعتقالات

محمود كريم عياد الملقّب بـ "المرابط" من مخيم الدهيشة في بيت لحم،(31) عامًا، اعتقل للمرةِ الأولى في 21 فبراير عام 2005 وكان عمره آنذاك ستة عشر ربيعًا لكن سهم القدر أصابه ليحكم عليه بالسجن ثلاث سنواتٍ ونصف السنة. تردد صدى الحكم في أذنيه "ثلاث سنوات ونصف السنة"، حينها حاول أن ينفض غبار الصدمةِ عن نفسيته، وأن يتجرّع مرّ الحكم صبرًا وصمودًا وطمأنينةً بقول الله: "إنهم يرونه بعيدًا ونراهُ قريبًا".

يختلف وقت الأسير عن وقتنا، فالوقت في الأسر يُصبح ميتًا، وعقارب الساعة بالكاد تمضي..

هكذا تجرّع "محمود" احتضار الوقت في سجن "النقب"، كان طفلًا صغيرًا، لكنه بات رجلًا شامخًا ثائرًا في وجه الاحتلال.

يقول "محمود" بلهجةِ قضاء القدس: "كانت أمي تبكي عليّ وتحمل صورتي وأنا صغير لأن مصيري كان مجهولًا لمدة ثلاثة أيام، كانت امي بتفكرني استشهدت".

لم يكن الوقت بطيئًا على محمود فقط، وحدها والدته من تجرّعت الألم مرتين عند اعتقال زوجها وابنها، ليلتقي محمود بوالده مدة قصيرة، ثم خرج من السجن، وبقي محمود يقضي محكوميته!

"محمود" لم يسلم من غدر الاحتلال، الذي باغته باقتحام سجن عوفر.

يتحدث محمود قائلًا: "في 22 تشرين الأول 2007 اقتحمت قوةٌ اسرائيليةٌ معروفة "بوحدة المتسادا" وشنت هجمة شرسة بحق الأسرى، واعتدت قوات "المتسادا" على الأسرى بالضرب بوحشية، وإطلاق الرصاص المطاطي، وقنابل الغاز، وانتهت هذه الهجمة الشرسة بإطلاق رصاصة استقرت في رأس الأسير الشهيد "محمد الأشقر".

بصوتٍ مرتجف يروي ما حدث من هجومٍ وحشي، هي مشاهد قاسية وصفها "محمود" ويعيش الأسير وجع شراستها كل يوم!

السجن كشف الموهبة

السجن مدرسة وانطلاقة حقيقية للأسير الفلسطيني ليكتشف إبداعه ومواهبه الفريدة. "محمود" امتلك موهبة كتابة الأناشيد والقصائد، حيث كان ميلاد الشعر في الأسر، يقولُ بفخرٍ واعتزاز: "وأنا في السجن شاركت في مسابقة شعرية وحصلت على المركز الأول" والفضل لله ثم للأسير المحرر علي عصافرة الذي ساعدني في تنمية موهبتي.

في 31 آذار 2008 كان محمود على موعد مع الفرح واعتناق الحرية، رغم السنين التي أكلت من عمره، إلا أنه خرج رجلًا يتحدى الاحتلال.

بعد خروج محمود من الأسر أحب أن يكون متفردًا باسم ثوري عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فكان لقب المرابط ملتصقًا مع اسمه محمود، يقول المرابط: "كان أحد المشايخ في الحارة –رحمه الله- يناديني بالمرابط حتى بات الاسم معروفًا عند الجميع".

خارطةُ العمر تؤكد للأسير أنه في طرفٍ يمكن الوصول إليه، غير أن مجيء قوات الاحتلال له محتمل في كل حين!

في 16 سبتمبر 2009 قبل عيد الفطر داهم الاحتلال بقوات كبيرة منزل المرابط محمود واعتقله، يقول المرابط بنبرةٍ حزينة: "هذا الاعتقال لم يكن عبثًا، الاحتلال كان متعمدًا لسلب الفرحة منا في لحظات السعادة والأعياد، واعتقلوني 20 شهرًا إداريا في سجني عوفر والنقب".

مشاعر صعبة يرويها محمود، لا شيء إلا تحشرج الدمع في العين، واختناق البيلسان حين نزع الاحتلال منه الروح، وافترقت الأجساد حتى تاريخ 13-5-2011.

شمسُ الحرية تشرقُ وتغيب في حياة المرابط محمود، يقول: "اعتقلت في 10 ديسمبر 2014 وحولت للتحقيق 42 يومًا، كان بداية التحقيق يستمر لـ 22 ساعة مقيدًا، مشبوحًا على الكرسي، ومنعت من رؤية المحامي".

لحظاتٌ من الأسرِ تُكتبُ بالدمعِ محفوفة بالألمِ والقهر، ساعات طويلة تحت سيف التعذيب يبقى "محمود" عالقًا، تارة يصرخُ من الوجعِ، وتارة أخرى يفقد وعيه من شدة الألم.

لكن أكثر ما يُميّز المرابط محمود قدرته على التحمل والصبر، وأنه استطاع في سجن" مجدو" كتابة العديد من الأناشيد وأكثرها انتشارًا نشيد "شيعيني للخلود"، وعانق الحرية من جديد بتاريخ 10 فبراير 2016.

زفاف بعد طول انتظار

ملامحُ السعادة عند الفلسطيني دائمًا يغتالها الاحتلال بجبروته وقدرته على تحويل الفرح إلى ألم.

محمود كأي شابٍ يحلم بحياةٍ ورديةٍ بعيدة عن شراسة الأسر، كان يتجهز لِحفل زفافه بتاريخ 31آذار 2017م لكن وحشية الاحتلال كانت أسرع من أيِ فرحةٍ تُعانق محمود.

ففي تاريخ 5 آذار 2017 اعتقل المرابط إداريًا لمدةِ عامين يقول محمود: "عزلت في زنازين انفرادية خارج أقسام الاعتقال وقررت خوض الإضراب عن الطعام لمدة 21 يومًا، وأوقفت إضرابي بعد قرارٍ بتخفيف مدة الأسر ومنحي قرارًا جوهريًا بأن يكون الاعتقال الرابع هو الأخير، والسماح لخطيبتي بزيارتي".

بنبرةِ الفرح والانتصار يقول محمود بلهجته البسيطة: "لما طلعت من الزنازين ورجعت على القسم، استقبلني الشباب في القسم بالتكبير والتصفيق وفرحة كبيرة"، هكذا انتصرت إرادة المرابط محمود عياد على السجان، والآن يتنفس الحرية منذ أواخر ديسمبر 2018.

عادت ملامح الفرح على وجه المرابط بتاريخ 12 فبراير/2019م وهو يتجهّزُ لعروسه "أمينة" التي صبرت على مرِّ اعتقاله في مرحلة الخطوبة، والآن أصبح عريسًا محررًا من قيد الأسر.