فلسطين أون لاين

​قناديل تُنير لك الدرب

...
بقلم / د. زهرة خدرج


مشاعر حبيسة

"نشر أحدهم خبر وفاته على (فيس بوك) بعد أن أخذ منه السأم كل مأخذ، وجلس ينتظر ليرى كيف ستكون ردة فِعل أصدقائه وأقاربه، أخذ عدد لم يكن يتوقعه من الناس يدخلون حسابه ويرثونه بكلمات مؤثرة، ويؤكدون كم كانوا يحبونه، وكم هو شخص عزيز على قلوبهم، ويتساءلون كيف ستمضي الحياة بغيابه، وكيف أنها ستفقد طعمها الحلو ... إلخ، استغرب جدًّا، لماذا لم يتقدم أحد من هؤلاء ليخبره بأنه يحبه إلى هذه الدرجة؟!، ولماذا لم يصرح له بما يكنه من مشاعر طيبة له؟!، لماذا انتظر هؤلاء جميعًا سماع خبر وفاته ليصرحوا بما تُكنُّه قلوبهم من حب ومشاعر بعد أن انتهى الوقت، وفقد ذلك جدواه؟!".

نحن عاطفيون جدًّا، ومع ذلك بخيلون جدًّا في التعبير عن مشاعرنا الرقيقة التي تملأ صدورنا، تكمن مشكلتنا في أسلوب تربيتنا الذي يكبتنا ويمنعنا من أن نعبر عن مشاعرنا منذ صغرنا؛ فبكاء الرجل ضياع لرجولته لأن الرجال لا يبكون، وبكاء المرأة دلع زائد عن حده، ومديح الأبناء يسبب تماديهم وتطاولهم "ويكبر رؤوسهم"، وهكذا؛ فترانا نؤثر أن تبقى المشاعر حبيسة داخل صدورنا، وإذا تمادينا بإطلاقها يكون بعد فوات الأوان.

الوقت الوحيد الذي نطلق فيه سراح مشاعرنا ونسمح لها بأن تجري كلمات عذبة على ألسنتنا فقط عندما نصطدم بفقدان من كنا نكنُّ له بمشاعرنا الجميلة، فنندم حينها، ونتمنى لو عادت بنا الحياة إلى الوراء مرة أخرى لنخبره كم كنا نحبه، وكم كان عزيزًا على قلوبنا، وكم هي الحياة كئيبة ومملة من دونه، ونتمنى لو يعود لنشاركه في اللحظات الحلوة والمشاعر الرقيقة.

فلا تجعل لسانك يتردد في نقل مشاعرك إلى من حولك قبل فوات الأوان، شجعهم، أخبرهم بأنك معجبٌ بهم ومسرور لنجاحهم، وشاكر لموقفهم معك، فلا تبخل بالكلمة الرقيقة التي تفرح قلوب الآخرين.

أصناف الناس حسب فاعليتهم

"في مدرجات ملاعب كرة القدم يصطف عشرات، وربما مئات، وقد يصل العدد إلى ألوف وملايين أحيانًا من المتفرجين على لعبة كرة القدم، وهؤلاء لا يعلم أحد عنهم شيئًا، سوى أنهم بشر يملؤون المقاعد، يهتفون مشجعين ويحتفلون عند إحراز هدف، وهناك أعضاء الفريقين الذين يلعبون ويحوزون اهتمام الجميع، وهناك شخص واحد تتركز عليه الأنظار وعدسات الكاميرات، وهو اللاعب الذي يصنع الحدث ويحرز الهدف".

وألفت انتباهك إلى ملحوظة مهمة عن الأهمية التي تصنعها أنت لنفسك: اعلم أن هناك أناسًا يمضون حياتهم ليتعاملوا مع الأحداث التي تجري في حياتهم، وهؤلاء هم الناس العاديون، ويقفون متفرجين على التطور الذي يحرزه غيرهم والنجاح الذي حققوه، يتفاخرون بإنجازات أصدقائهم وأقاربهم وغيرهم ممن يعرفون، يوزعون عبارات الثناء والإعجاب، ويتتبعون أخبار الناس والمميزين منهم خاصة، عندما يمضي فرد من هذه المجموعة يهتم محيطه بغيابه مدة قصيرة ثم يطويه النسيان.

وهناك صنف ثانٍ يصنعون الأحداث فيكونون هم محور اهتمام الآخرين وحديثهم، وهم القادة والمميزون والناجحون والفاعلون في الحياة، ومن يغادر الحياة من هذه الفئة يهتم الناس جدًّا بفقدانه، ولا يسمحوا لأنفسهم بتغييب سيرته عن حياتهم.

وهناك صنف ثالث لا علاقة لهم بما يدور حولهم، حجبوا أنفسهم في زاوية من زوايا الحياة استنفذت وقتهم وجهدهم وحياتهم، وهؤلاء لا يعلمون أن هناك أحداثًا تجري وتغيرات كبيرة تحدث، فهم مغيِّبون عن الحياة، وعندما يمضي هؤلاء لا ينتبه أحدٌ إلى مضيِّهم.

لكل شيء ثمن

اعلم أن لكل شيء في هذه الدنيا ثمنًا عليك سداده؛ فثمن الحرية خسارة جزء مما تملك أو كله، وقد تخسر روحك لأجلها، وثمن أن تكون حرًّا صاحب مبدأ يتمثل في اقتطاع جزء كبير من حريتك الشخصية وحقك في التقدير والمكافأة والمكانة، وثمن النجاح والتميز يكون في التعب والإرهاق المستمر وقلة النوم والعزلة الاجتماعية وكثرة الحاسدين، وثمن العظمة هو مكابدة الشدائد والتحديات والتغلب عليها، ولا تستغرب حين أقول: إن لتمضية العمر كله في راحة وسكون ثمنًا أيضًا، وهو العيش على الهامش، وفقدان تقدير الذات وتذوق لذة النجاح عند الوصول إلى هدف كان بعيدًا في بداية الطريق، وإهدار العمر دون أية إنجازات والنسيان بعد الممات، ستدفع الثمن غاليًا من وقوفك هذا، من عمرك ووقتك وحياتك واحترامك لنفسك.

فالشمعة التي تنير الظلام وتوضح معالم الدرب تدفع ثمنًا مرتفعًا جدًّا لقاء ذلك، إنها تدفع نفسها وهي تحترق وتذوب مع كل ذرة من النور تطلقها؛ فلا شيء في هذه الحياة بلا ثمن.

المهم أن تعمل ما تؤمن به وتحبه وتشعر تجاهه بالمتعة والشغف واللذة والدفء والإيجابية، حتى لا تشعر في نهاية المطاف أنك دفعت ثمنًا باهظًا لشيء لا يستحق، وليكون هناك ما يعوض الضيق الذي سببه لك التفريط في أشياء كثيرة كنت تتمناها؛ فنحن نعطى فرصة واحدة للحياة، وهي لا تتكرر مرة أخرى، لهذا اختر منذ البداية طريقًا لا تندم على ما خسرته فيها لاحقًا.