اقتحامات الاحتلال لمدينة رام الله في الآونة الأخيرة لم تكن الأولى من نوعها، كما أنّها لم تقتصر على رام الله، بيد أنّ الذي جذب الاهتمام إلى هذه الاقتحامات هو كثافتها واستمرارها وطبيعة مهمتها وتركّزها في مدينة رام الله، وإلا فإنّه يجدر أن نذكّر أنّ رام الله، كما كل المدن الفلسطينية، كما كلّ المناطق التي سُمّيت في اتفاقية أوسلو بالمناطق (أ).. كلّها مستباحة من الاحتلال، يغزوها كلّ ليلة، ولا يخلو يوم بعضها من غزوات نهارية، تصل عمقها أحيانًا، وتطال أطرافها في أحيان أخرى، غالبًا ما يعتقل فيها العديد من الفلسطينيين.
أهمية هذا التذكر تأتي من ناحيتين، الأولى في كون الاهتمام بالاقتحامات الأخيرة، كاد يبدو وكأنّ أصحابه المهتمين قد غفلوا عن ذلك الواقع القائم منذ حملة السور الواقي في آذار/ مارس 2002. إنّ ما يُسمّى بالمناطق (أ) في الضفة لم يصمد بالكاد أكثر من أربع سنوات، أي منذ دخول السلطة إلى التاريخ المذكور أعلاه، ثم عادت قوات الاحتلال سيرتها المعهودة من اقتحامها واعتقال بعض من فيها، وحتى قتل بعض من فيها، ثمّ إنّ هذه المناطق حينما سُيّجت في تلك السنوات الأربع بأوسلو، لم تكن ذات معنى سياديّ، فإنّها جزر معزولة، تفصل بينها مناطق (ب) و(ج)، التي أباحت اتفاقية أوسلو للاحتلال جوسها متى ما شاء وكيفما شاء، وكأنّها الصورة المرادة لمعنى سيادة الفلسطيني، أي تلك المناطق (أ)، سيادة فقيرة الحقيقة أحاط بها الإسرائيلي، ثمّ عاد وأزالها مطلقًا، وسمح لنفسه بالجوس المرفّه فيها. هذا أمر لا ينبغي إغفاله وكأنّ الاحتلال يفعل شيئًا جديدًا.
وأمّا الناحية الثانية التي توجب هذا التذكير، فهي في كون أوضاع الفلسطينيين مجهولة في كليات وتفاصيل منها لغيرهم، بل مجهولة لبعضهم، فإنّ البعض يجهل أن السيادة الأمنية للفلسطينيين على المناطق (أ) منعدمة منذ حملة السور الواقي، وأنّ عملية الإمعان في إعدامها مفتوحة في كلّ يوم لم تنقطع لحظة واحدة منذ ذلك التاريخ، ثمّ إنّها وقبل إعدامها –وكما سلف بيانه- لم تكن ذات معنى، طالما أنّها لم تزد على كونها بقعًا متناثرة في محيط من الهيمنة الإسرائيلية.
وإذن فإنّ الاقتحامات الأخيرة لم تكن جديدة، ولكن في شكلها الأخير وظروفها وما لابسه بعض ما يستدعي النظر فيها على وجه الخصوص، وأول ما يرد في تلك الملابسات أنّها كانت بعد سلسلة عمليات ناجحة نفذتها المقاومة، وهذا الأمر يبين الطبيعة الأمنية لهذه الاقتحامات، التي أحاطت بمدينتي رام الله والبيرة، واستولت أثناءها على معلومات الكاميرات المنصوبة على مداخل المنازل والعمارات والمحالّ التجارية، مستهدفة أحياء الإرسال والبالوع والماصيون وأم الشرايط وعين منجد والطيرة، وغيرها، وبالرغم من أنّ بعض الخيوط التي تشير إلى مصادر بعض تلك العمليات قد تكشفت باستشهاد عاصف البرغوثي، ثم اعتقال أخيه عاصم البرغوثي، فإنّ العملية الأمنية استمرت في خطّ سيرها المشار إليه بعد ذلك، وهو ما يعني أن الاحتلال إمّا أنه يبحث عن مجموعات لم يصل إليها بعد، أو أنه يحدّث معلوماته الأمنية، أو أنّه يعزّز من وسائله الأمنية في الميدان، أو ذلك كلّه.
الملاحظ هنا أنّ الاحتلال لا يكتفي أمنيًّا بأيّ طرف آخر، وسياسيًّا وحين الإشارة إلى أن الاحتلال قد تنصّل من التزاماته باقتحامه للمناطق (أ) وأن السلطة مستمرة في القيام بما يترتب عليها من الالتزامات، فإنّ الاحتلال يبدو أولاً وكأنّه يؤكّد على تمسكه بهيمنته الأمنية الكاملة في أيّ تسوية محتملة، وذلك بقوله عمليًّا أنّه لا يعتمد على السلطة في حفظ الأمن، وإنما على ذاته قبل أيّ عامل آخر، ولا تخلو هذه الاقتحامات من هذه الجهة من أنّها تنطوي على رسالة تخويف مفادها إمكان التخلّي عن الشكل الحالي للسلطة، أو عن النخبة الحالية التي تقودها، وبالتالي الاستمرار في الابتزاز، وعلى نحو متّصل بتوسيع اتصال الاحتلال بالجماهير الفلسطينية من خلال إعادة إحياء وتفعيل الإدارة المدنية.
وإذا كانت هذه الحملة غير بعيدة -حين الحديث في الاعتبارات السياسية- عن السجالات الإسرائيلية الداخلية، واقتراب الانتخابات المبكّرة، وحرص بنيامين نتنياهو على ترميم صورته باعتباره "رجل الأمن"، فإنّها ألصق بالجهد الأمني الهائل الذي يبذله الإسرائيليون لتطويق الحالة الكفاحية في الضفّة، وهي حملة أشبه بالعملية الجراحية، التي لا تكتفي بتبليغ الرسائل للساسة الفلسطينيين، وإنما كذلك للجماهير الفلسطينية ضمن سياسة "كيّ الوعيّ" ولكن على نحو لا يعظّم من المشهد النضالي أمام نواظر عامّة الناس، ويبقي الحملة موضعية وإن اتسعت.
بعد تحليل هذه الحملة شكلاً ومضمونًا، لا شكّ أن السؤال عن موقف السلطة وحركة فتح يبقى قائمًا، فمن جهة توفّر هذه الحملة للسلطة "النضال" الدبلوماسي باعتبارها خرقًا للاتفاقيات الموقّعة، ومن جهة أخرى تفتح المجال لتطوير أدوات المقاومة الشعبية، بيد أنّ شيئًا من ذلك بما يرقى إلى مواجهة الحملة وما تنطوي عليه من دلالات سياسية خطيرة.. غير موجود، وإنما يتصدر المشهد التأزيم الفلسطيني الداخلي، وهو أمر في دلالاته لا يقلّ خطورة عن دلالات الحملة الأمنية الإسرائيلية.. بل أخطر.