فلسطين أون لاين

​رحلة مع ( فلسطيني بلا هوية) – الحلقة الثانية


يقول "خلف": "كنتُ أتوقع كل شيء، إلا الهزيمة المذلة التي أعلنها عبد الناصر يوم 9 حزيران 1967م، عبد الناصر يستسلم؟!، من كان يتخيل ذلك؟!"، ويضيف: "بعد نجاحنا في معركة الكرامة 1968م أقمنا علاقات وثيقة مع الأنظمة العربية المستعدة لمساعدتنا، فالتقينا عبد الناصر واتفقنا على إقامة علاقات مباشرة مع فتح دون المرور بالمخابرات، وأوصانا بالذهاب إلى الملك فيصل ليدعمنا ماليًّا، فذهبنا، واستقبلنا الملك السابق سعود، وسلمنا قبل الانصراف ما يوازي 30000 دولار، وسمح بإنشاء لجان لجمع الهبات، وبأن تُحسم تلقائيًّا نسبة سبعة من المئة من رواتب الفلسطينيين في السعودية، ووعد أنه سيدفع لحركتنا مبلغًا موازيًا له".

في تلك المدة استقال أحمد الشقيري من قيادة المنظمة، وحل محله بالوكالة يحيى حمودة، فحاول عبد الناصر بتشجيعه دمج الحركة الفدائية في منظمة التحرير، لوضع حد لازدواجية السلطة الشكلية لمنظمة التحرير والسلطة الشرعية الممثلة بفتح، ولم تقبض المنظمات الفدائية على زمام المنظمة إلا في شباط 1969م، وعين ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية، الذي بكى انفعالًا أمام المسؤوليات، واعتمد الهدف الإستراتيجي، وهو إنشاء دولة ديمقراطية في فلسطين يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في مساواة تامة وتكافؤ كامل.

الفصل الخامس: الجزر

يتحدث خلف عن المعارك بين المقاومة الفلسطينية والقوات الأردنية عام 1970م، فيقول: "رغم تأكيداتنا للأنظمة العربية عدم تدخلنا في شأنهم الداخلي، الملك حسين كان يقتنع نصف اقتناع وكان يشك في أننا نسعى إلى سلبه السلطة، فقد عبأ الجماهير ضدنا بدعاية ذكية تظهرنا ملحدين وأعداء الله، وشيوعيين يتعاونون تعاونًا وثيقًا مع قوى دولية مريبة، وأعترفُ أننا ساعدناه على بلوغ هدفه حين نظر الفدائيون إلى الجيشَ الأردني كعدو أكثر من حليف ممكن، فحاولت رأب الصدع مع الملك حسين 1970م، وفشلتُ؛ فوقعت مجازر بحق الفدائيين، ولم تهدأ الأمور إلا بخروج ياسر عرفات متنكرًا بلباسٍ بدوي كويتي من عمان إلى مصر بأمر من جمال عبد الناصر، دون معرفة الملك حسين".

ويضيف: "غداة توقيع اتفاق عرفات- حسين بالقاهرة في 28 سبتمبر علمنا أن الرجل الذي أنقذنا مات، فحررتُ باسم فتح رسالة تعزية إلى أنور السادات، بصفته نائب رئيس الجمهورية، ولما عدتُ لعمان نهاية أكتوبر طلب "وصفي التل" تجميع المقاتلين في جرش وعجلون، حيث يستطيعون مقاتلة العدو قتالًا أفضل، فسلم مقاتلونا السلاح نهاية يناير، ظانين أن بوسعهم مغافلة السلطات وإفراغ الاتفاق، بعدها أصدر "التل" قانونًا يقضي بإعدام كل من يحمل سلاحًا ناريًّا، وبدأ الجيش يفتش الأحياء ويكتشف مخابئ سلاحنا بسهولة مذهلة، وبعد تحقيقات اكتشفنا أن المخابرات الأردنية زرعت عملاء لها بين المناضلين.

وأدارت الأنظمة العربية وجهها عنا، فأنشأنا جهازًا سريًّا في الأردن يتولى الإعداد لإسقاط النظام، توليته أنا، وصدرت تعليمات بتعزيز قواعدنا في لبنان، للعودة إلى شن الهجمات الفدائية ضد (إسرائيل)".

الفصل السادس: حرب الأشباح

يذكر "خلف" أن منظمة "أيلول الأسود" التي لا ترتبط بفتح اغتالت رئيس وزراء الأردن "وصفي التل" في نوفمبر 1971م، ثم سعت لتحرير المعتقلين السياسيين من السجون الأردنية بخطف رهائن ودبلوماسيين أجانب، لكن الجهود فشلت بسبب اختراق الأمن الأردني المناضلين الفلسطينيين.

ويضيف: "مطلع عام 1973م وجهت منظمة التحرير رسالة رسمية إلى إدارة الألعاب الأولمبية مقترحة اشتراك فريق رياضي فلسطيني، فكان التهميش هو الجواب، فخططنا لخطف مجموعة رياضين إسرائيليين في ألمانيا، لكن تلك العملية لم تحقق النتائج المطلوبة، فكانت الخاتمة استشهاد ثلاثة فدائيين، وإصابة الأعضاء الثلاثة الباقين، وتسليم أنفسهم.

وبالإجمال لم تذهب تضحيات أبطال ميونيخ هدرًا؛ فقد بلغوا هدفين من ثلاثة، فقد اطلع الرأي العالمي على المأساة الفلسطينية، وفرض الشعب الفلسطيني حضوره على هذا التجمع الدولي الذي كان يسعى إلى استبعاده، ثم إن السلطات الألمانية سعت إلى التخلص من الأسرى الفدائيين، وجاءتها الفرصة بعد ذلك بشهرين في 29 أكتوبر 1972م، عندما اختطفت مجموعة مغاوير فلسطينية طائرة بوينغ تابعة لشركة "لوفتهانزا" تعمل على خط بيروت فرانكفورت إلى زغرب، وطالبت بالإفراج عن الناجين من عملية ميونيخ، فأفرج عنهم على الفور ليعودوا جنودًا مجهولين في صفوف المقاومة".

يخبرنا خلف: "بينما أنا ذاهبٌ إلى زيارة الثلاثة الناجين من عملية ميونيخ لأسمع حكاية مغامرتهم، لاحظتُ وجود هرج قتال في الشارع حول المبنى الذي تحتله الجبهة الديمقراطية، فسألتهم عن سر الهرج، فردوا أن مغاويرهم مستنفرون بسبب الهجوم الوشيك الذي ستشنه الجبهة الشعبية على مكاتبهم، فاستشطتُ غضبًا، وما إن وصلتُ إلى مقصدي حتى سمعتُ أصوات انفجارات قوية، فخرجتُ إلى حيث ياسر عرفات، فحين لقاني احتضنني طويلًا بين ذراعيه، كان بادئ الانفعال، وأخبرني أن مغاوير إسرائيليين نزلوا في الجنوب قرب صيدا وفي بيروت شنوا هجماتهم على عدة أهداف فلسطينية، وقد دخلوا شقة محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، ولكنه لا يدري أهؤلاء قد اختطفوا أم قتلوا، وبعيد ذلك بدقائق بلغهم النبأ الصاعق: رفاقنا الثلاثة قتلوا حقًّا وصدقًا".

الفصل السابع: شرارة أكتوبر

يقول "خلف": "في مارس1973م التقيتُ أنا وفاروق القدومي السادات الذي اشتكى مطولًا من تردد الاتحاد السوفياتي في شحن الأسلحة ذات الأهمية الحاسمة، ثم سألنا عن وضع المقاومة الفلسطينية، وفجأة أعلن أنه سيشن بالاشتراك مع سوريا حربًا على (إسرائيل) تحت اسم الشرارة قبل نهاية هذه السنة، وسيبلغنا بصورة أوفى بالموعد بعد قمة البلدان غير المنحازة التي ستعقد في مطلع سبتمبر، ثم نذهب معًا إلى مؤتمر السلام.

وأعترفُ بأننا لم نعط فكرة أن "نذهب معًا إلى مؤتمر السلام" انتباهًا كثيرًا، لأن فكرة الحرب على (إسرائيل) كانت تثير لدينا حماسًا بالغًا، وأكدنا للسادات تضامننا الكامل في الحرب، وسألناه عما يتوقعه من جانبنا، فأجابنا بأنه يتمنى أن يكون في وسعه التصرف بأكبر عدد ممكن من الفدائيين، ومن وحدات جيش التحرير الفلسطيني، لتشترك في المعركة، ثم طلب منا كتم الفكرة وعدم إبلاغها لأحدٍ حتى حافظ الأسد، وبعد القمة عرض السادات علينا مشروعه، وأنه سيدعو لعقد مؤتمر سلام بعد الحرب، وأذكر أنه في 12 سبتمبر استقبل الساداتُ عرفاتَ، وأكد له أنه سيبلغه بالموعد المحدد للاشتباكات في حينه، ولدى عودتنا لبيروت عقدنا اجتماعين للمجلس الثوري ولجنة التنفيذية في منظمة التحرير لإطلاعهما على نية السادات، وفي 30 سبتمبر تلقيتُ رسالة من سفارة مصر في بيروت تطلب مني السفر إلى القاهرة على عجل، وأبلغتُ ممثلي المنظمات الفدائية الذين اجتمعت معهم، فذهبتُ إلى القاهرة في 4 أكتوبر، وجدتُ ضابطًا كبيرًا في المطار ينتظرني، وقادني إلى وزير الحربية المشير "أحمد إسماعيل علي"، فأبلغني: "سنهاجم بعد غد، لقد تأخرتَ في المجيء ولابد من إخبار ياسر عرفات فورًا"، لم أشأ من قبيل التروي والحكمة إرسال رسالة بالشيفرة، فحررتُ مذكرة واضحة وضعتها في ظرفٍ مختومٍ وسلمتها في صباح اليوم التالي لأحد أفراد المقاومة، وطلبت منه إتلافها في حال اختطاف (إسرائيل) الطائرة، واندهش الرسول أنْ لماذا كل هذه الأسرار والاحتياطات؟، فاخترعت له على البداهة تفسيرًا، بد له لحسن الحظ مقبولًا، فالمغلف الذي سيوصله إلى عرفات يدًا بيد يتضمن كتاب استقالتي من الحركة، ولا أريد إفشاءها قبل قبولها، ولما تسلم عرفات الرسالة حتى استنفر قوات المقاومة، ففي اليوم التالي ستندلع الشرارة".

يضيف خلف: "في يوم الهجوم اجتمعتُ أنا والقدومي بالسادات في القاهرة، وقال لنا بلهجة المنتصرين: "ألم أقل لكم أنني سأحارب؟، فهل تصدقونني الآن؟"، واعترتنا الدهشة عندما صرح لنا قائلًا: "إن جيوشي ستندفع حتى ممري متلا والجدي، ثم يواصل الفدائيون حرب العصابات"، في الاجتماع وصلت إلى السادات برقية، قرأها مرتين، غضب، وقال: "لا أصدق؛ فالسوفيات يبلغونني أن الأسد طلب من سفيرهم في دمشق العمل لوقف إطلاق النار"، ولم يلبث السادات أن اطمأن، إذ تلقى في حضورنا مكالمة هاتفية من الأسد عبر له فيها عن مواصلة القتال، وأنه لم يطلب وقف إطلاق النار".

يذكر خلف: "أخبرنا السادات أنه اتفق هو والأسد مع ملك السعودية على مواصلة الحرب عشرة أيام على الأقل، لأنه يحتاج إلى هذه المهلة ليمهد الطريق أمام حظر النفط، هنا استنتجنا أن الحرب لم تكن لتحرير سيناء، وإنما كانت ضغطًا اقتصاديًّا على الغرب".

ويضيف: "كلما هممنا بالمغادرة ألح علينا السادات بالبقاء، ولم نفهم حينها مرد لياقته إزاءنا، وعندما أسترجعُ ذلك يراودني الاعتقاد بأنه سعى إلى ضمان تأييدنا له في حالة خسارته الحرب، الأمر الذي كان سيكون كارثة على مستقبله السياسي، أو في حالة ربحه لها، وأعتقد أنه كان يأمل كسب ثقتنا ليستميلنا إلى مسار السلام الذي ينوي السير فيه".

يتحدث خلف بعتب: "ودارت حرب تشرين، وغفلت عن الإشارة إلى صنائعنا، أو حضورنا، برغم أنه كان فعالًا على الجبهات كافة، باستثناء جبهة الأردن إذ رفض الملك حسين ذلك".

ويذكر: "لم تكد الحرب تنتهي حتى رغب السادات في التفاوض مع (إسرائيل)، ففي 26 أكتوبر 1973م التقيتُ أنا والقدومي السادات، وسألنا: "هل منظمة التحرير توافق على تمثيل الفلسطينيين حول الطاولة المستديرة؟"، لم أجبه عن السؤال لأني لم أطلعُ على حيثيات الموضوع، فقال السادات: "حضوركم ضروري في مؤتمر السلام".

عدنا لبيروت في 27 أكتوبر -والقول لخلف- ونحن نعلم أن الدول العربية تؤيد انخراطنا في اللعبة الدبلوماسية، كان علينا تحديد موقف واضح، فاجتمعنا بقيادة فتح، وأدركنا أن السادات يضعنا في وضعٍ صعبٍ، وفي 12 نوفمبر ذهب ياسر عرفات إلى السادات ودُهش من موقفه، فالأخير بدا شبه لا مبال بالقرار الذي اتخذناه: عدم الرد على مؤتمر السلام بـ"نعم" أو "لا"، بانتظار أن نتلقى دعوة حسب الأصول".

يقول "خلف": "إن العيب الرئيس في الحرب أن السادات رسم لها أهدافًا محددة، دون أن يدرك أنها لا تستطيع بلوغ هذه الأهداف إلا إذا مضى بهجمته إلى غايتها، ثم يجب أن يسجل في رصيد الدول العربية السلبي قصورها عن استخدام سلاح النفط الذي تملكه استخدامًا كاملًا،، لكني لا أخفي اعجابي بالحماس والتفاني اللذين أظهرهما الجنود المصريون والسوريون".

يختم خلف شرارة أكتوبر: "لم تمثل حرب أكتوبر للفلسطينيين كما مثلت للعرب، لم تكن إلا انقشاعة قصيرة الدوام، وبدلًا من أن تشق طريق تحرير الأراضي المحتلة عززت النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، ويسرت مؤامرات تصفية المقاومة الفلسطينية، وبالمقابل الحرب ونتائجها أثارت في صفوفنا وعيًا صحيًّا سيساعدنا على تكييف أهدافنا على الحقائق، واتخاذ قرارات جريئة تضع حدًّا نهائيًّا لسياسة (كل شيء أو لا شيء)".