صراع العقول هو السمة التي امتاز بها المؤتمر الإعلامي الذي بثّته قنوات فلسطينية وكشف خلاله أبو عبيدة الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام تفاصيل أمنية جديدة حول عملية حد السيف التي خاضت خلالها المقاومة الفلسطينية اشتباكا مع وحدة أمنية إسرائيلية توغلت شرقي خانيونس جنوب قطاع غزة في نوفمبر الماضي، فقتلت قائدها وأصابت عددا من عناصرها قبل أن تشن طائرات الاحتلال أكثر من أربعين غارة جوية للتغطية على فشل العملية وسحب الوحدة الأمنية الإسرائيلية.
مؤتمر القسام جاء تتويجا لجهود استخبارية مكثفة ومتواصلة أطلقتها المقاومة الفلسطينية بهدف كشف جميع الخيوط التي أحاطت تلك العملية الأمنية المعقدة، وأصدرت خلالها المقاومة ثلاثة بيانات عسكرية، الأول منها كان مقتَضَباً وجاء بعد ساعات قليلة فقط من اكتشاف الوحدة الأمنية، وهدف إلى تأكيد وقوع الحدث. ونعى البيان الثاني شهداء المقاومة في اليوم التالي، وتحدَّث عن إفشال مخطط أمني كبير لجيش الاحتلال في عمق غزة. أما البيان الثالث الذي صدر بعد عشرة أيام من العملية فقد وجهّت المقاومة من خلاله ضربة أمنية مُوجعة لجيش الاحتلال حين كشفت اللثام عن صور عناصر الوحدة الأمنية الإسرائيلية، ما دعا جيش الاحتلال إلى فرض تعتيم أمني مشدد للحيلولة دون انتشار تلك الصور في الفضاء الإلكتروني مُحَذِّرا الجمهور الإسرائيلي من التعاطي معها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تصريح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية الذي أشار في كلمته خلال حفل انطلاقة حماس منتصف ديسمبر الماضي إلى امتلاك المقاومة الفلسطينية كنزا أمنيا كبيرا نتيجة تحقيقاتها المستمرة حول الوحدة الأمنية المذكورة أكد انتهاء تحقيقات كتائب القسام منذ أكثر من شهر، لكنها اختارت توقيت الإعلان بما يوحي عزمها توجيه ضربات أمنية متلاحقة تؤكد من خلالها تفوقها في معركة صراع العقول على جيش الاحتلال، وربما نشهد مستقبلا نشر معلومات أخرى جديدة حول العملية بما يحقق هذا الهدف.
سرعة المقاومة في كشف جميع تفاصيل العملية الأمنية الفاشلة التي مُنِيَ بها جيش الاحتلال في غزة، وقدرتها على معرفة طرق التفكير وآليات العمل التي تستخدمها أجهزة أمن الاحتلال، وكشف أدواتها ووسائلها ومصادر معلوماتها، واغتنام بعض أسلحتها ووثائقها وأدواتها التقنية رغم الفروقات المادية والتقنية الهائلة بين إمكانات المقاومة وجيش الاحتلال، علاوة على أنه يُعد ضربة أمنية موجعة لجيش الاحتلال الذي بدأ التخطيط لتلك العملية الفاشلة بحسب مصادر منذ يناير 2018م، إلا أنه أيضاً يعزز من مناعة الجبهة الفلسطينية ويُحصِّنها من محاولات الاختراق الأمنية الإسرائيلية، وقد بدا ذلك جليا من خلال تعمّد المقاومة إشراك المجتمع الفلسطيني في التحقيقات، وإتاحة المجال للمواطن الفلسطيني لتقديم أي معلومات حول تحركات الوحدة الأمنية الإسرائيلية، الأمر الذي ساهم في توفير المزيد من التفاصيل والمعلومات التي أثرت تحقيقات المقاومة الأمنية.
إعلان القسام أن هدف الوحدة الأمنية الإسرائيلية –بحسب نتائج التحقيقات- كان اختراق منظومة الاتصالات الخاصة بالمقاومة الفلسطينية يؤكد أن غزة باتت صندوقاً مغلقاً أمام أجهزة أمن الاحتلال التي تعاني من شح المعلومات الأمنية داخل غزة ولم تعد تمتلك المعلومات الكافية حول المقاومة الفلسطينية، خاصة مع النجاحات المتتالية التي حققتها المقاومة في كشف عدد من شبكات العملاء في الآونة الأخيرة، ويدعم هذه الفرضية أيضا تكرار قصف الاحتلال ذات الأهداف في كل عملية تصعيد مع غزة خلال السنوات الأخيرة.
قرار المقاومة الفلسطينية عدم نشر الكثير من المعلومات الأمنية التي كشفتها التحقيقات بدا واضحاً من استهلال العرض المرئي للقسام خلال مؤتمرها الصحفي بعبارة "ما سُمِح بنشره"، الأمر الذي يتيح للمقاومة إمكانية استثمار تلك المعلومات الأمنية مستقبلاً وترجمتها إلى إنجازات سياسية من خلال تبادلها مع أطراف إقليمية متعددة، خاصة في ظل الإعلان أن إحدى المهام الإستراتيجية للوحدة الأمنية –سيريت متكال- التي اكتُشفت هو التسلل داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وأنها عملت في أكثر من ساحة على جمع معلومات أمنية لصالح دولة الاحتلال.
المبادرة المُبتَكرة التي أطلقتها المقاومة في مؤتمرها الإعلامي ومنحت بموجبها عفوا عاما عن عملاء الاحتلال الذين يعودون إلى رشدهم ويلفظون نهج التخابر مع الاحتلال تعبر عن حنكة أمنية ووطنية، حيث أعلنت عن مكافأة مالية قدرها مليون دولار لأي عميل يعود إلى رشده ويقدم معلومات تؤدي إلى استدراج ضباط أمن الاحتلال أو وحدات أمنية مشابهة، وبذلك انتقلت المقاومة بتلك المبادرة الذكية من مربع الدفاع إلى مربع الهجوم، فالإغراء المالي هو أحد الأساليب الرئيسة التي تعتمدها أجهزة أمن الاحتلال في اخترق الجبهة الفلسطينية وإسقاط بعض المواطنين في وحل العمالة، خاصة مع اشتداد الحصار الاقتصادي الذي تفرضه دولة الاحتلال على غزة، وبالتالي نجحت المقاومة بتلك المبادرة في غرس الشك والريبة في قلوب ضباط أمن الاحتلال المكلفين باستدراج وإسقاط العملاء، وباتت أجهزة أمن الاحتلال بحاجة إلى اختبارات قاسية قبل وثوقها بأي عميل في المستقبل خوفا من الوقوع في شَرَك الاستدراج الذي أحكمت سياجه المقاومة الفلسطينية.
أيضاً فإن النتائج التي توصلت إليها المقاومة بدخول عدد من أفراد الوحدة الأمنية الإسرائيلية من خلال معابر غزة التي تسيطر عليها السلطة في رام الله، وتمكنهم من إدخال المعدات من خلال معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه ذات السلطة يؤكد أهمية إعادة النظر في آلية عمل معابر غزة بما يضمن مشاركة الشرطة الفلسطينية في غزة بفاعلية في السيطرة الأمنية على تلك المعابر.
يتضح جلياً من خلال مؤتمر القسام الأخير وجود نموذجَين فلسطينيَّيْن للتعامل مع جيش الاحتلال، الأول نموذج ثابت الأركان سطّرته المقاومة في غزة وجعلت غزة محرمة على جيش الاحتلال، ونجحت في كسر نظرية الردع التي اعتمدت عليها دولة الاحتلال، فلاحقت نخبة جيشها وأردتها بين قتيل وجريح، وحققت هزيمة سياسية لحكومة الاحتلال تُوِّجت باستقالة وزير جيش الاحتلال التي دشّنت الخطوة الأولى نحو انهيار حكومة نتنياهو.
والثاني نموذج هشّ ضعيف أقامته السلطة في رام الله، فقدست من خلاله التنسيق الأمني مع جيش الاحتلال، وقدمت له التنازل تلو الآخر باسم الشعب الفلسطيني، ولاحقت بموجبه من يفكر من الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، حتى جاوز تعداد المعتقلين السياسيين في الضفة 1250 مواطنا فلسطينيا خلال 2018م، فأضحت أرض الضفة بهذا النهج مستباحة لجيش الاحتلال ومستوطنيه، وبين هذا النموذج وذاك يبقى المواطن الفلسطيني هو الوحيد الذي يمتلك القدرة على التمييز بين الغثّ والسمين.