منذ توقيع اتفاقية أوسلو "سيئة الذكر"، بدأت حالة من السعي خاصة لدى الاحتلال الإسرائيلي لمحو أسس ومبادئ العلاقة الوطيدة التي تربط الفلسطينيين ببعضهم في الضفة الغربية والقدس المحتلتين ومدن الأراضي المحتلة عام 1948، فمشاهد التلاحم الكبير التي تميزوا بها منذ وجودهم كانت تعرقل مخططات الاستعمار والاستيطان وتكشف عورة المحتل وتعيده خائبًا.
وفي السنوات التي تلت انتفاضة الأقصى تكثف السعي من أجل محو هذه العلاقات؛ فأغرقوا الأهالي بالقروض و"الشيكات" البنكية والالتزامات المالية التي لا تنتهي، ووضعوهم تحت مقصلة لقمة العيش، وأصبحت المعادلة "إما أن تغمض عينيك عما حولك، أو تموت من الجوع".
معادلة خبيثة تلك، ولكن أينما وجدت المقاومة وجد التلاحم الشعبي الذي صُرفت لأجل إنهائه الأموال والدولارات، بحيث تتحول الضفة الغربية إلى واحدة من الولايات الغريبة التي يعيش فيها المواطن غريبًا عن جاره وعائلته ويهتم فقط بنفسه، فكانت الأيام الأخيرة التي عاشتها مدينة رام الله من حالة مقاومة فرديّة تعزيزًا آخر للتلاحم بين المواطنين والعودة لمجابهة الهم الواحد وهو الاحتلال، بحسب ما يقول مواطنون.
المواطن أنس عبد العزيز من رام الله يقول لصحيفة "فلسطين": "لقد كان مشهدا أعادنا إلى أيام الانتفاضات، حين تفتح المنازل أبوابها لكل الناس ممن انقطعت بهم السبل للوصول إلى بيوتهم بسبب إغلاق الاحتلال الطرق وتشديد الخناق على الحواجز العسكرية، وهذه الحالة من الوعي لدى الناس تثبت أنهم لم ينسوا أصلهم ومعاناتهم وهمهم الرئيس وهو التخلص من الاحتلال".
ويوضح عبد العزيز أن حالة الترابط هذه بمثابة إنعاش للناس الذين ظنوا أن الأموال والملاحقات والتهديدات قد صنعت منهم جيلا آخر نسي أنه شعب محتل والتصق بالأمور المادية والاهتمام فقط بالحصول على منزل ومركبة ووظيفة دائمة تؤمن العيش الكريم.
من جهته، يقول المواطن حاتم طوافشة من بلدة سنجل شمال رام الله: "منذ إغلاق الاحتلال الطرق ووضع المكعبات الإسمنتية وسط بعضها تركنا وظائفنا الرسمية وحوّلنا أوقاتنا لخدمة العالقين على الطرق، وفتحنا مبنى البلدية ومنازلنا لمن يحتاجون إلى مأوى، وكأن الحال يذكرنا دائما بألا ننسى أننا جميعًا تحت احتلال واحد".
ثورة شعب
وكان من المشاهد القريبة لوحدة الدم والقضية، تجمهر آلاف المواطنين حول منزل الشهيد أشرف نعالوة في ضاحية شويكة بطولكرم لمنع هدمه، وكذلك إسراع الآلاف إلى منزل الشيخ الأسير عمر البرغوثي في بلدة كوبر شمال رام الله حين سمعوا باستشهاد نجله والمئات الذين حوصروا في بيته لساعات واعتُدي على معظمهم من جنود الاحتلال.
ويقول الشاب أحمد البرغوثي أحد أقرباء الشهيد صالح لـ"فلسطين": إن حالة التعاطف والتلاحم هي ما هوّنت على العائلة مصابها بعد التوكل على الله، حيث كانت العائلات الأخرى تقدم لها كل أنواع الدعم المعنوي حتى أن بعض الشبان كانوا لا ينامون، ويرابطون على مداخل البلدة تحسبًا لاقتحامات جديدة.
ويضيف البرغوثي أن إحدى العائلات ألغت زفاف ابنها في البلدة احتراما لدماء الشهيد، وكانت تمر مواكب الأعراس في الشوارع الرئيسة دون أصوات لأبواق المركبات وإن كانت بعيدة عن مسامع أهل الشهيد؛ لأن هذا يعني الوفاء للمقاومين وليس فقط حالة عابرة.
وفي كل مرة يعيد الاحتلال بغبائه وجرائمه حالة التلاحم التي لا يريدها أن تبقى لدى الفلسطينيين، وفي كل مرة تنتعش قلوب الأهالي لمعرفة أن الأرض لم تتوقف عن إنجاب المقاومين مهما وصل الترغيب أو الترهيب حدّه.