قائمة الموقع

6 سنوات تُغَيَّبْ الأسيرة "أبو كميل" عن صغارها السبعة

2018-12-09T08:45:14+02:00
صورة أرشيفية

تستعد نسرين أبو كميل (43 عامًا) لمغادرة منزلها متوجهة إلى معبر بيت حانون/ إيرز، بعد تلقيها اتصالًا هاتفيًّا من مخابرات الاحتلال، للحضور واستلام تصريح زوجها للدخول للأراضي المحتلة عام 1948م (كانت قدمت التصريح لزوجها لكونها من سكان حيفا).

الثامن عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2015م عقارب الساعة تعانق الحادية عشرة صباحًا، على عتبات المنزل تحدث طفلتها أميرة: "يلا بدي أروح على المعبر عشان أطلع التصريح لأبوك ونصير نزور بيت جدك بحيفا"، لم تعتد أميرة التي كانت حينها لم تتجاوز اثنا عشر عامًا وإخوتها الصغار الستة، غياب أمهم لو لحظة واحدة، فأوصتها: "لا تتأخري علينا"، هربت من الأم دمعة على خدها وكأنها ترسل همسات وداع لطفلتها أميرة توصيها: "ديري بالك على إخوتك".

مرت ساعة واثنتان وثلاث ساعات، تركت الأم طفلها الرضيع أحمد الذي لم يتجاوز يومها ثمانية أشهر، وطفلتها نديم (ثلاث سنوات)، أميرة لأول مرة تتقلد دور الأم، تحاول إسكات بكاء هذا وإطعام آخر، وشقيقها الآخر يسألها: "ما اتصلتش أمي؟"، "لا".. بها أجابت عن سؤاله، كأنهم يشعرون أن والدتهم غادرت ولم تعد.

اتصال ليس في الحسبان

يوشك اليوم على طي ساعاته الأخيرة مع حلول المساء، يرن هاتف حازم أبو كميل (43 عامًا) زوج نسرين، المتصل ضابط من مخابرات الاحتلال.

(الضابط) بتعجرف: مرتك معتقلة لدينا.

(الزوج) مصدومًا من الاتصال: ليش حبستوها.. إيش الذنب اللي عملته؟

اختصر ضابط الاحتلال دون الرد على السؤال السابق: يا حتروح بكرة يا حتكمل حكمها.

عناصر المخابرات حققوا مع أبو كميل لأكثر من ساعتين، ونقلوها إلى سجن عسقلان بعد تقييد يديها وعصب عينيها، وهناك جرى تفتيشها على أيدي مجندات بإهانة، ونقلت إلى الزنازين لعدة ساعات، ثم أعادوها للتحقيق مرة أخرى، وطلبت منهم الاتصال على زوجها لإعلامه بأنها معتقلة.

لكن الأب أخفى تفاصيل المكالمة عن أطفاله، وأخبرهم أنها ذهبت لزيارة بيت جدهم بمدينة حيفا وستعود غدًا، حل اليوم التالي ولا صوت ولا أخبار عن الأم، وأميرة في حيرة من أمرها، ترسم بعضًا من علامات الاستفهام والتعجب، وتتردد في وضع نقطة في نهاية تفكيرها.

تتصل الطفلة بخالتها من هاتف والدها (كان قد أخبرهم أن والدتهم لن تتصل بهم)، الصوت يشبه صوت أمها فتزاحمت الكلمات بصوت أميرة: "أنت وين ليش ما جيتي على البيت؟"، وسكت صوتها: "أنا خالتك؛ أمك ما اجتش عنا"، أمام رد الخالة، بدأت هواجس الشك بحدوث أمور ما تجول في خاطر الطفلة وإخوتها، يسمعون أطفال الحي يتهامسون: "يا حرام أمهم أسيرة عند اليهود"، لكن المحامي طمأن الأطفال أن أمهم ستعود بعد أسبوع من اعتقالها.

تقلب أميرة صفحات تلك الأيام وتتوقف عند أول محاكمة لوالدتها: "كنا على أعصابنا، لا أستطيع إدارة شؤون البيت بين الاهتمام بإخوتي وتلبية متطلبات دروسي، كنت أسرق لحظات من الوقت لحل واجباتي (...) كان أول أسبوع لسجن والدتي أصعب أيام حياتي، حتى أن شقيقي أحمد الذي لم يبلغ عامًا افتقد أمه كثيرًا، وكان يبحث عنها وينادي عليها، حتى مرض ونام بالمشفى أربعة أيام وزادت الأعباء عليّ".

الأبناء ليسوا وحدهم يعانون، هناك خلف القضبان تعاني والدتهم الأمرين، استمر التحقيق مع الأسيرة في مركز تحقيق عسقلان 11 يومًا متتالية، ثم نقلت إلى سجن هشارون، وبقيت هناك نحو شهر ونصف الشهر، ونقلت لسجن الدامون.

لم يسلم الرضيع

سبعة أطفال أصغرهم رضيع لم يتجاوز ثمانية أشهر؛ خُطفت منهم والدتهم ستّ سنوات، غيبتها سجون الاحتلال قسرًا، فقطعت اتصال الأسيرة أبو كميل عن أطفالها، ومُنِعوا من زيارتها، حتى لم يجدوا صورة لها تخرج من الأسر تهون عليهم مرارة البعد عن أمهم، ولم يسمعوا صوتها إلا مرة واحدة.

في منطقة "تل الهوى" بمدينة غزة تسكن الأسيرة أبو كميل، في كل غرفة من بيتها يعلق أبناؤها وزوجها صورتها فلم تبقَ إلا هي لتذكرهم بوالدتهم وبعض الرسائل التي تصلهم من الأسر، في البيت يوجد دفتر مذكرات مكتوب فيه تاريخ الاعتقال ومرضها وظروف أسرها، يعدون فيه الأيام والشهور يتمنون لو باستطاعتهم إسراع عجلة الوقت ومرور الأيام وانتهاء الثلاث سنوات المتبقية لوالدتهم لتعود الحياة مرة أخرى إلى المنزل.

اليوم زادت أعمار الأطفال ثلاث سنوات أخرى فصار أكبرهم فراس (17 عامًا)، وفارس (16 عامًا)، وأميرة (15 عامًا)، وملك (12 عامًا)، وداليا (9 أعوام)، ونديم (6 أعوام)، وأحمد (4 أعوام)، وبعد انتهاء محكومية والدتهم بست سنوات سيزيدون ثلاثة أعوام أخرى، وتنتهي مرحلة الطفولة لغالبيتهم التي لم يعرفوا فيها حنان الأم.. فهل يمكن تخيل بيت دون أم، فكم من أسيرة عاشت ظروف الأسيرة أبو كميل؟ آلاف الأسرى غيبتهم سجون الاحتلال سنوات عن أبنائهم؟ منهم من مات في السجن، هناك حيث مقابر الأحياء التي لا تصلها الشمس.

مرت الأيام والأشهر، وتوالت جلسات المحاكمة التي تأجلت 13 مرة، يبحث هؤلاء الأطفال عن حنان الأم فلا يجدونه إلا في ذكرياتهم مع والدتهم، يرون الأهالي والأمهات يتفقدن أحوال أبنائهم بالمدرسة، يشاركونهم احتفالات التكريم، لا بهجة للعيد ولا للمناسب، كيف يمكن تخيل منزل وسبعة أطفال دون الأم، ووالدتهم خلف القضبان أسيرة تئن من عذابات التغييب.

إعدام الطفولة

مرت ثلاث سنوات وكل ما يربط الأطفال بأمهم مكالمة وحيدة، السادس والعشرون من يوليو/ تموز 2018م تاريخ لا تنساه أميرة وكذلك إخوتها، كيف يمكن تخيل تفاصيل مكالمة بين الأم وأطفالها بعد ثلاث سنوات غابت فيها عنهم بغير إرادتها، ما زال صوت أميرة يكتسي بالألم وتسكب عيونها حزنًا ودموعًا: "حينما اتصلت والدتي كنت أشعر بنبرة صوتها أنها تخفي معاناة كبيرة، لكنها تمالكت نفسها لأجلنا".

تنظر لصور والدتها الأربع في زوايا صالة الضيوف تمالكت نفسها ومسحت دموعها قائلة: "من حقنا الشعور بحنان الأم الذي حرمنا منه، من حقنا العيش كعائلة كاملة، ليس من حق أحد أن يخطف أحدنا دون سبب أو بسبب تهمة فاسدة، تبعدنا عن حضن أمي، حرموا طفلا رضيعا من أمه، وأبعدوا والدتنا عنا في مرحلة الطفولة التي نحتاج إليها في كل شيء".

لم تتوقف الحكاية عند الحرمان والأسر، فالأسيرة كانت تعاني قبل الأسر سرطانًا في الغدد لكن الورم الذي كان بسيطًا زاد كثيرًا بعد اعتقالها، ومعاناتها من المياه في ركبتها، ومرض الضغط والسكر، وآلام أعصاب في يديها من الشبح ورفع يديها طويلاً في أثناء التحقيقات.

يقلب زوجها في هاتفه المحمول يتوقف عند صورة لها، يدخل طفلها أحمد إلى الغرفة: "هدي أمي".. يعرف أحمد والدته التي غيبت عنه وهو رضيع، لكن لا يمكن معرفة حجم شوق هذا الطفل المحروم من حنان الأم لوالدته: "أين والدتك؟.. حتى هو يعرف مكانها: "حابسها السجن (الاحتلال)"، ويقول والده: "أصعب شيء علينا حينما تخرج أسيرة من سجون الاحتلال من غزة، نفرح لها وتطمئننا على زوجتي لكننا نخفي الألم بداخلنا لأننا نريد رؤيتها".

رسائل وبعض المشغولات اليدوية استطاعت أبو كميل إخراجها من سجون الاحتلال مع الأسيرة المحررة سناء الحافي عام 2016م، تخص ذكرى يوم زواجها، وأسماء أطفالها، لا تخفي الحافي في حديثها لنا صعوبة ما واجهته أبو كميل بالأسر لكونها مريضة السرطان، وأنها دائمًا ما تحب سماع أخبار غزة، وأطفالها، وتتحسر حينما يزور الأهالي الأسرى وهي لم ترَ أطفالها.

اخبار ذات صلة