في فلسطين يتربع الفساد السياسي على ظهر المؤسسات والوزارات والمكاتب والمرافق، ويشكل الفساد السياسي مرجعية شرعية لكل فساد، بدءًا من الفساد المالي والفساد الإداري والفساد السلوكي حتى الفساد الروحي، وليس أخيرًا الفساد التعليمي.
الوزيرة الصهيونية ميري ريغف، وزيرة الرياضة والثقافة، مرَّرت قبل أيام بالقراءة الأولى مشروع قانون اسمه "الولاء في الثقافة"، وهذا القانون يلغي ميزانية أي مؤسسة ترفض الاعتراف بـ(إسرائيل) كدولة يهودية وديمقراطية، أو تحرض على العنف والإرهاب، أو تدعم الكفاح المسلح، أو تعدّ يوم قيام دولة الصهاينة يوم نكبة وحداد، أو يحقر العلم الإسرائيلي ورموز الدولة.
قانون الولاء الثقافي مطبق لدينا في الضفة الغربية وغرة قبل أن تقره الكنيست الإسرائيلية بالقراءة الأولى، ويكفي أن تلقي نظرة على المنهاج الفلسطيني، لنقرأ على سبيل المثال في كتاب الصف التاسع قصيدة تغريبة المطر للشاعرة السودانية روضة الحاج.
الاعتراض ليس على الشاعرة العربية، فقد يكون لها قصائد إبداعية، ولا اعتراض على السودان الذي تفجر شعرًا ثوريًا وطنيًا عربيًا يعبئ الجراح بالحياة الراغدة، الاعتراض على القصيدة الفقيرة في دلالاتها، والتي تغرق في الرمزية، قصيدة تخلو من معانقة الخيال بالواقع، وبلا فكرة واضحة تتناسب والمرحلة التعليمية، قصيدة تفتقر إلى جمالية الإبداع الفني.
فلماذا تجلبون في وزارة التربية والتعليم شعرًا خاوي المعاني، ولديكم في فلسطين مدرسة الشعر الثوري، والقصائد الوطنية، ومنها قصيدة وطني للشاعر محمود درويش، التي يقول فيها:
وطني يعلمني حديد سلاسليعنف النسور ورقة المتفائل
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة وعرس جداول
سدوا علي النور في زنزانتي فتوهجت في القلب شمس مشاعلي
كتبوا على الجدران رقم بطاقتي فنما على الجدران مرج سنابل
أبيات من الشعر تعج بالوطنية وبالمحسنات البديعية، والصور الفنية، واللغة والخيال والجمال.
لقد فرضت اتفاقية أوسلو الولاء الثقافي على منهاج التعليم، وصارت المناهج الفلسطينية تخاف أن تتهم بالتحريض، وصار التعاون الأمني يفرض نفسه بشكل سابق على الأساتذة الذين يشاركون في إعداد المنهج، حتى صار لدينا منهاج تعليمي لا يتناسب وحياتنا الرافضة للاحتلال، والمحرضة على الغضب والثورة ضد المحتلين.
سأضرب لكم مثلًا مدهشًا على ذلك:
يتحدث كتاب التاريخ للثانوية العامة عن حرب العصابات، ويضرب لحرب العصابات مثلًا بحرب فيتنام شرق آسيا، وينسى المؤلف أن حرب العصابات قد خاضتها الثورة الفلسطينية في الأغوار وفي غزة وفي لبنان، والضفة الغربية، فكيف تضرب مثلًا بالبعيد، وتنسى القريب، لولا قانون الولاء التعليمي الذي مررته الوزيرة المتطرفة ميري ريغف بالقراءة الأولى قبل أيام؟
أدعو الباحثين والدارسين الراغبين بالحصول على شهادات دكتوراه وماجستير أن يدققوا في سلبية المنهاج التعليمي في فلسطين، وآثاره المدمرة على الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وكيفية الخروج من هذه الحالة البائسة التي يدفع فيها المتبرعون ثمن طباعة الكتب المدرسية، بعد أن يضع الإسرائيليون شرط عدم الولاء الثقافي لفلسطين.