من الواضح أن حكومة الاحتلال وكل أجهزتها الأمنية والمدنية ومستوياتها السياسية والعسكرية والقضائية تصعد بشكل غير مسبوق حربها الشاملة على سكان مدينة القدس العرب الفلسطينيين، والحرب ليست وقفًا على البشر، بل تطال الحجر والشجر أيضًا، وتستهدف المقدسيين في كل مناحي حياتهم اليومية وتفاصيلها.. إنه صراع على الوجود والبقاء وعلى الحيز العام والمكان.
من بعد قرار المتصهين الرئيس الأمريكي ترامب وفريق إدارته الأكثر صهيونية من حكومة الاحتلال نقل سفارة بلادهم من تل أبيب إلى القدس واعتبارها عاصمة لدولة الاحتلال، وجد الاحتلال بأن هذا القرار يتيح له فرصة تاريخية لكي يستثمره سياسيًّا، كحلقة مهمة في مسلسل تهويد مدينة القدس وأسرلة سكانها، ولذلك كشفت حكومة الاحتلال عن خطة خماسية (2018-2023) لما يسمى بدمج سكان القدس العرب ضمن المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي، وبما يشمل الاستثمار السياسي لذلك، وأيضًا تجريد المقدسيين من ممتلكاتهم ومقدساتهم، وبما يصفي وجود وعمل ومؤسسات ومراكز ومقرات وكالة "أونروا" في القدس، استفادة واستغلالًا للقرار الأمريكي بتجفيف المصادر المالية لوكالة الغوث بوقف المساهمة الأمريكية كليًّا في ميزانيتها وتقييد تعريف اللاجئ، كواحد من عناوين ما يسمى بصفقة القرن لشطب وتصفية القضية الفلسطينية.
من بعد الانتخابات الإسرائيلية للبلديات والمجالس المحلية في 30/10/2018، ومن ضمنها بلدية "القدس"، والمقاطعة شبة الشاملة لها من قبل المقدسيين، للتأكيد بأن القدس مدينة محتلة، وبما لا يشرعن إجراءات ضمها وتهويدها من قبل الاحتلال، وكذلك رفض التساوق مع الخطة الأمريكية المسماة بصفقة القرن، بتكريس وشرعنة احتلالها.
رئيس بلدية الاحتلال السابق المتطرف "نير بركات" بدأ بجس النبض لتصفية عمل وكالة الغوث في القدس، وإغلاق مؤسساتها وتصفية وجودها، من خلال اقتحام عيادة الوكالة في زاوية الهنود في البلدة القديمة، تحت حجج وذرائع معرفة أصناف وأنواع الأدوية في صيدليتها ومصدرها وصلاحيتها، ليعقب ذلك باقتحام شرطته وبلدوزراته لمخيم شعفاط من أجل جمع القمامة من شوارع وأزقة المخيم، مع التهديد بالاستيلاء على أرض المخيم وإغلاق مدارس ومراكز الوكالة الصحية والأمومة فيه وتحويل مراكزها المجتمعية إلى مراكز جماهيرية تابعة لبلدية الاحتلال.
وفي زيادة للضغط على المقدسيين ودفعهم إلى اليأس والإحباط وفقدان الثقة بأي مرجعية وطنية، بدأ الكشف عن عمليات تسريب بعض ضعاف النفوس والمتجردين من أي قيم ومعاني الانتماء الوطني والأخلاقي للعديد من الأراضي والعقارات في سلوان والبلدة القديمة، والتي في التركيز عليها وتضخيمها أثارت عاصفة قوية عند المقدسيين، ورغم الخطورة العالية لمثل تلك العمليات المشبوهة، إلا أن الهدف واضح هو ضرب الحالة المعنوية عند المقدسيين، والسعي لجعل عملية بيع وتسريب العقارات والأراضي المقدسية للجمعيات التلمودية (العاد) و(عطروت كوهونيم)، شرعية وطبيعية.
التصدي لمثل هذا المخطط والمشروع المستهدف لتغيير طابع القدس ومشهدها العام من مشهد عربي إسلامي مسيحي من قبل القدس وقواها ومؤسساتها وجماهيرها والسلطة وأجهزتها، التي باتت محط اتهام المقدسيين بالتقصير وعدم المتابعة والمساءلة والمحاسبة، لمن يقومون بمثل هذا العمليات، دفع الاحتلال وأجهزة مخابراته إلى اعتقال محافظ القدس عدنان غيث لعدة أيام، تحت حجج وذراع اختطاف مواطن مقدسي والتحقيق معه حول تلك العمليات، وكذلك جرى اعتقال عدد من المواطنين المقدسيين على خلفية ذلك أيضًا، ولم تكتفِ مخابرات الاحتلال والأجهزة الأمنية الإسرائيلية بذلك، بل عمدت إلى اقتحام وزارة شؤون القدس ومحافظتها في ضاحية البريد، واعتدت على العاملين فيها، والذين أصيب عدد منهم نتيجة قمع قوات الاحتلال، ناهيك بعمليات التكسير والتخريب التي طالت أجهزة إلكترونية من حواسيب ومكاتب وغيرها، وكذلك مصادرة العديد من الكاميرات والأجهزة والكثير من الوثائق والملفات، وبث الرعب والخوف في صفوف العاملين، ليس بسبب وحشية الاقتحام فقط، بل من خلال الاستدعاءات المتكررة للعديد منهم إلى مراكز التحقيق.
المحتل أرفق تلك الإجراءات والممارسات القمعية لفرض مشروعه التهويدي على المدينة، بمنع العديد من الأنشطة والفعاليات، والتي أخذت شكل لقاءات مع محافظ القدس، وكذلك توفير ملابس شتوية لأطفال، تحت حج وذرائع مشاركة شخصيات من السلطة والقوى السياسية في تلك الأنشطة والادعاء بتمويلها.
كان من الواضح بأن رئيس بلدية "القدس" الجديد يريد أن يظهر بأنه أكثر "حربجية" من سلفه، وبأنه الأقدر على قمع المقدسيين العرب والتنكيل بهم ومصادرة حقوقهم والعمل على طردهم وتهجيرهم، فما إن جرت عملية تصفية الفتى عبد الرحمن أبو جمل بدم بارد من قبل قوات الاحتلال وشرطته، تحت ذريعة اقتحامه مقر شرطة الاحتلال "عوز" المقام على أراضي جبل المكبر، وطعن عدد من رجل شرطته، ليستشهد لاحقًا بعد تعرضه لضرب مبرح من قبل جنود وشرطة الاحتلال، ولتقوم بلدية الاحتلال ووزارة داخليتها بشن حملة انتقامية كبيرة على الحجر تركزت في جبل المكبر ومخيم شعفاط، حيث جرى هدم عشرات المنشآت التجارية، وهدم حوالي عشرين متجرًا في مخيم شعفاط، واضح أنه لها بعد سياسي بامتياز، ألا وهو العمل على تصفية قضية اللاجئين، وإنهاء مخيم شعفاط، فالاحتلال لا يمتلك صلاحية الهدم في المخيم، لكون الوكالة هي المسؤولة عنه فيما يخص الخدمات التعليمية والصحية وجمع النفايات وعمليات البناء.
من بعد إقرار ما يسمى بقانون القومية الصهيوني، والمستهدف القيام بعمليات تطهير عرقي واسعة بحق المقدسيين، لقلب الواقع الديمغرافي في المدينة لصالح المستوطنين المتطرفين، وتغيير المشهد الكلي للمدينة، ولذلك وجدنا أن هناك تواطؤ ما بين الجهاز القضائي الإسرائيلي وما يتفرع عنها من محاكم مع الجمعيات التلمودية والتوراتية في السيطرة على أراضي المقدسيين وطردهم وتهجيرهم منها تحت حجج وذرائع أنها كانت أملاكًا يهودية قبل أكثر من مئة عام، كما هو الحال في ملكية أراضي بطن الهوى في سلوان، فالهدف هو طرد 700 مقدسي وتهجيرهم منها، وكرم المفتي في الشيخ جراح، وطرد 29 عائلة مقدسية وتهجيرها، ورغم اعتراف ما يسمى بقضاة المحكمة العليا الإسرائيلية بوجود فساد وعيوب في عمليات نقل تلك الأراضي إلى الجمعيات التلمودية والتوراتية من قبل القيم "الوصي" على أملاك الغائبين إلى الجمعيات الاستيطانية، إلا أنها شرعنت طرد العائلات المقدسية منها، وهذا يثبت تواطؤ "الدولة" مع عصابات المستوطنين المسجلة كجمعيات لتيسير عملية السطو على بيوت الفلسطينيين، ومن ثم إخلاؤهم وإحلال المستوطنين في منازلهم، لتغيير الديموغرافيا وفرض حقائق سياسية جديدة على الأرض.
في اعتقادي أن الاحتلال وأجهزة مخابراته، لكي ينهوا دور ووجود وعمل وزارة القدس ومحافظتها في المدينة، وأي مظهر سيادي فلسطيني آخر يعملون على أكثر من اتجاه، ليس من خلال الاقتحامات والترهيب والاعتقالات وأوامر الإبعاد والمنع من السفر وغيرها فقط، بل هم يوظفون قضية اعتقال المدعو عصام عقل عند السلطة لخدمة أهدافهم السياسية والأمنية، وكلما خف الاهتمام بقضايا تسريب العقارات والأراضي في المدينة، يوعزون لجهات معينة، من أجل إثارة القضية من جديد، وبرمجة العقل المقدسي وتطويعه فيما يخدم الهدف الذين يريدون الوصول اليه، لأن لهم مصلحة في استمرار خلط الأوراق وبث الفتن والخلافات والاتهامات في أوساط المجتمع المقدسي، وهم يحركون أدواتهم وأذرعهم في هذا الجانب، وهذا يتطلب ليس توعية المقدسيين وتحذيرهم من أهداف المخطط المشبوه وطبيعته لضرب وحدتهم ونسيجهم المجتمعي وحالتهم المعنوية فقط، بل لا بد من الإسراع في نشر نتائج لجنة التحقيق التي شكلها رئيس الوزراء، لكي تقطع الطريق على استمرار هذا المسلسل، فهو حلقة في الحرب الشاملة والمستمرة التي يشنها المحتل على المقدسيين.