لم تتوقف ارتداداتُ الهجمات الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، مع توقُّف العدوان؛ سياسيًّا، وشعبيًّا، فشعبيًّا، ثمَّة استياءٌ واضح، عبَّر عنه مستوطنو سديروت، وكذلك احتجاجات تل أبيب، وازداد غضبُهم بعد تصريحات وزير التعاون الإقليمي، تساحي هنغبي، والتي بدت تُقَدِّم أمْنَ تل أبيب، وقلب (إسرائيل)، على أمن مستوطنات غلاف غزة. وسياسيًّا، في استقالة وزير الجيش، أفيغدور ليبرمان، على خلفيَّة رفْض رئيس الحكومة، نتنياهو، توجُّهاته بالاستمرار في العدوان. ثم مطالبته بانتخابات مبكِّرة، لا يفضِّلها نتنياهو، ثم تلا استقالة ليبرمان، تهديدُ حزب البيت اليهودي بالانسحاب من الحكومة، إذا لم يُولَّ زعيمُه، نفتالي بنيت، حقيبةَ الجيش، قبل أن يعلن تراجعه، عن ذلك، ما خفّض من مخاطر إسقاط حكومة نتنياهو والاضطرار لانتخابات مبكِّرة.
وعنوان الغضب المشترك إسرائيليا هو تآكُل ما تسمَّى قوَّة الردع، وهي اللصيقة بأهمّ ما يشغَل دولة الاحتلال، وهو الأمن، في وقتٍ لا تثق فيه بفرص السلام، لا سيَّما مع تقديرات نتنياهو أن المشكلة في تقبُّل (إسرائيل) لا تزال في الشعوب العربية، ولا تثق بقدرة القيادة الفلسطينية المنخرطة في عمليَّة "التسوية"، على توفير الأمن، وضبط الوضع الفلسطيني، ولا سيَّما في قطاع غزة. وحتى في الضفة الغربية، يُعيَّر رئيس السلطة، محمود عباس، بأنه لولا الاحتلال لأطاحت حركة حماس السلطة في دقيقتين. وسابقا عيّره عمري شارون، نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، بأنه لا يجرؤ على دخول مخيَّم بلاطة، قرب نابلس، فما دام لا شريك قويًّا لسلام يُعتمَد عليه، فالأمن عليه كلُّ التعويل.
ومع الأضرار الملموسة التي ألحقها قرارُ وقف العدوان على غزة، إذ أظهر حركة حماس والمقاومة في القطاع بمظهر النِّدّ، وأنها قادرة على إرباك كيان إسرائيل، وتعطيل الملاحة الجوية، والتأثير بالتالي، حيويًّا، على السياحة، والاقتصاد، وعلى صورة (إسرائيل)، بصفة عامة، أمام العالم، وأمام مواطنيها. مع تلك الأضرار، يطل السؤال: لماذا قبِلَ نتنياهو بهذا القدر من (الأهداف)، علما أن إطلاق الصواريخ كان ردًّا من فصائل المقاومة على المحاولة الاحتلاليَّة للتوغُل في القطاع، على أرضيَّة مقدِّمات التهدئة التي توسَّطت فيها أطرافٌ دولية وعربية. وعلما أيضا أن غرفة العمليات المشتركة للمقاومة كانت تحتكم إلى مقادير عالية من الدقَّة في التوقيت، وفي عدد الصواريخ، وفي أماكن استهدافها، بحيث لم تهدف إلى توسيع نطاق المواجهة، بإجبار، والرضوخ للضغوط التي لن يكون في مقدوره كبحها.
ومع الأخذ بعين الاعتبار معضلة غزة في التصوّر الإسرائيلي العام، والذي عبّر عنه رئيسُ الوزراء والجيش الأسبق، إسحاق رابين، الذي قال: "ليتني أصحو فأجد غزة، قد ابتلعها البحر"، والتي تفاقمت بعد أن نجحت حركة حماس، وفصائل المقاومة الأخرى، في بناء هذه القدرات العسكرية التي، وإن كانت متواضعة بالقياس للقوة الإسرائيلية الغاشمة، إلا أنها بهذه التناظُرية، تبقى مؤرِّقة لدولة الاحتلال، ولا سيما إذا تذكّرنا أنَّ القبَّة الحديدية (كلفت الاحتلال كثيرا، وعوّل عليها كثيرا) لم تنجح إلا في اعتراض مائة قذيفة، أو صاروخ، من أصل 460 قذيفة، أو صاروخ، بحسب موقع واللا العبري؛ ما دفع الأخير إلى الإقرار بأن القبة الحديدية لم تفِ بمهمَّتها بالتصدِّي للقذائف والراجمات والصواريخ الفلسطينية، متوسطة، وقصيرة المدى.
ولذلك، ليست المشكلة الأمنية التي تمثِّلها غزة تحدِّيًّا لنتنياهو فقط، إنما للجيش وللدولة كلِّها، إذ لا حلَّ حاسمًا لها، وحتى لو تجشَّمت (إسرائيل) المخاطرة، بحربٍ واسعةٍ وبرِّية، وتجرَّأ المستوى السياسي على المغامرة بمستقبله السياسي، وتحمَّل إزهاق مئات من جنود الاحتلال، فإن السؤال، كما يقولون أنفسهم، يبقى عن اليوم التالي للسيطرة على غزة، أو إعادة احتلالها؟ ثم عن القوى التي سيكون لها تأثير في القطاع، وما طبيعتها؟
قد يتبادر إلى الأذهان أنَّ دوافع نتنياهو شخصية انتخابية، تعود إلى رغبته العنيدة في البقاء على عرش (إسرائيل) مَلِكًا، كما وُصِف. وهذا الطموح متوفِّر، فعلا، في هذه الشخصية السياسية المعروفة ببراغماتيّتها الذاتية، وتحطيمها خصومها، بأيّ طريقة، وحتى على أبعاد ذاتية في شخصية نتنياهو، نفعيَّة، وولعه بالمال، وحرصه عليه. إلا أنه ليس الدافع الوحيد، فنتنياهو يقود حزبا، له نظرته، وله شعبية، يستند إلى أولويَّات، تترجمها نجاحاتٌ يُسَوِّقها، وتتمثَّل في علاقاته المتميِّزة مع أميركا/ دونالد ترامب، وفي توسيع علاقات (إسرائيل)، على مستوى العالم، وتعزيز نشاطها الاقتصادي، وحتى بعلاقاته الوثيقة مع دول عربية، كانت سرِّية، ثم هي آخذةٌ بالطفوّ إلى العَلَن.
وهو أيضا محكومٌ بعُمْق الأهداف الإسرائيلية، في البقاء، في منطقة عربية، خطرة؛ لأنها غير مستقرة، (والشمال، سورية، مؤشِّر واضح). وكثيرا ما فوجئ السطح بما تحته من تفاعلات قوية. كما ظهر في ثورات شعوب عربية، في ما سمي الربيع العربي، حيث كشف عن قوة جامحة كامنة، وعن غضبٍ محتقنٍ من نظم عربية حاكمة لم تنجح في تحقيق طموحات شعوبها. صحيح أن تلك المُحرِّكات كانت داخلية في الأغلب، لكن إسرائيل تدرك موقع فلسطين في الوجدان العربي، وأنَّ ذلك ما يحول، على الرغم من كل جهود التطبيع الفعلي والنفسي، في تقبّل تلك الشعوب هذه الدولة التي تزداد عنصرية وتطرُّفا واعتداءاتٍ على المقدَّسات والمقدَّرات.
ثم إن ما يمنع نتنياهو من التوسُّع في العدوان، والذهاب به إلى مداه الأخير، خوفه على جنود الاحتلال، والخسائر التي غالبا لا يتحمَّلها هذا الجمهورُ الإسرائيلي الذي ينتقده الآن، لوقفه الحرب، فلا بدَّ أنه يدرك حجم الأضرار والأثمان المتوقَّعة، وهي التي تتقاطع فيها المخاوف العامة، للشعب والدولة، والمخاوف الخاصة لنتنياهو، كما حصل مع سابقه، إيهود أولمرت، الذي يرى خبراء إسرائيليون أنَّ مستقبله السياسي لم يجرِ إنهاؤه بسبب اتهامات الفساد، وإنما بسبب ما جرّه قراره بالحرب العدوانية على لبنان، صيف 2006 من خسائر باهظة.
نعم، ليس الثمن الذي يخشاه نتنياهو شخصيًّا، فقط، لكنه أيضا، قوميٌّ، وإستراتيجيّ، فالأولوية في هذه المرحلة لتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، ولتهويد القدس، وتكريس الوجود الاحتلاليِّ في المسجد الأقصى. وعربيًّا، تأمين الجبهة الشمالية، وتطبيع العلاقات مع دول عربية جاهزة للقفز على المبادرة العربيَّة التي مثَّلت الحدَّ الأدنى من الحقوق العربيَّة والفلسطينيَّة.
العربي الجديد