منذ ستة أشهر، وعلى التحديد منذ اندلاع مسيرة العودة الكبرى في الثلاثين من مارس/ آذار 2018 وحتى اليوم، أصبحت المواجهة بين قطاع غزة والعدو الصهيوني كشّافة لموازين القوى من جهة، وللمواقف السياسية وما تحتمله من صوابية أو أخطاء أو أحقاد على المقاومة، أو قصر نظر أو اختلال في البوصلة، من جهة أخرى.
خاضت المقاومة في قطاع غزة، وجماهير قطاع غزة، ثلاث حروب مع جيش العدو الصهيوني، وصمدت اثنتي عشرة سنة تحت حصار قاسٍ، وللأسف، لم يقتصر على حصار من جانب العدو، فحسب، وإنما أيضًا فلسطينيًا من قبل سلطة رام الله، ثم مصريًا، فعربيًا، بأشكال متعددة، من قبل أنظمة لم يعجبها أن تبقى راية المقاومة المسلحة مرفوعة بعد أن طوتها اتفاقية أوسلو، وذلك فضلًا عن أسباب أخرى.
على الرغم من هذين البعدين: المقاومة والحروب، والمقاومة والحصار، راح الموقف الرسمي الفلسطيني الذي يمثله محمود عباس؛ يناصب قطاع غزة العداء. وقد جعل ينكر وجود مقاومة حقيقية خاضت حروبًا ثلاثًا (تفقأ كل عين بارحة)، وأوصل الوضع في القدس والضفة الغربية إلى كارثة من خلال التنسيق الأمني الذي حمى الاحتلال والاستيطان، ووصل به الأمر إلى اتهام حماس بالدخول في صفقة القرن، وذلك إذا ما فك الحصار جزئيًّا، وإذا ما توقف إطلاق النار، ولو بشروط المقاومة، وحتى لو استمرت مسيرات العودة الكبرى، واستمر التسليح وحفر الأنفاق، والإعداد للحرب، ناهيك بالتمسك المبدئي بثوابت التحرير والعودة، فهذا كله يصبح في عُرف الرئيس عباس صفقة القرن، ويصبح التنسيق الأمني في الضفة الغربية هو المتعارض مع صفقة القرن، ومن ثم، هل ثمة ما هو أعجب من هذا وذاك؟
الموقف من جانب السلطة في رام الله، وما عبر عنه الرئيس محمود عباس من إنزال عقوبات جماعية بقطاع غزة، ومن اتهام قطاع غزة كله (عمليًا) بالسير ضمن مخطط ترامب الفاشل المسمى "صفقة القرن"، مفهوم وليس بمستغرب؛ لأنه دفاع عن استراتيجية فشلت، وغاص نصفها في الطين، والنصف الآخر في مستنقع، فيما أثبتت استراتيجية مناهضة اتفاقية أوسلو وتداعياته، إلى يومنا هذا، أنها استراتيجية صحيحة سياسيًا في تمسكها بالثوابت والمبادئ التي عبر عنها ميثاقا 1964 و1968، وصحيحة وممارسة في تمسكها باستراتيجية المقاومة والكفاح المسلح والانتفاضة.
أما من جهة ثانية، فالأصوات الإعلامية وعدد من المعلقين الذين ينحازون إلى الأطروحات الأمريكية، أو إلى الدول المراهنة على أمريكا؛ مفهوم منهم أيضًا أن يهاجموا المقاومة في قطاع غزة، ويتباكوا على من يرتقي من الشهداء، أو يصاب من الجرحى، فضلًا عما يمكن أن يلحق من دمار. فهؤلاء فقدوا كل حجة في الدفاع عن مواقفهم، فلم يبق عندهم غير دموع التماسيح يذرفونها على ما يقدم من تضحيات (ما زالت أقل بكثير مما تستوجبه العملية التاريخية لتحرير فلسطين).
على أن ما ليس مفهومًا هو موقف بعض الصحفيين والمعلقين ممن يقفون على أرض المقاومة والثوابت، ولكن عندهم تحفظات، وقد تصل لدى بعضهم إلى حد العداوة، فتراهم يأخذون موقفًا مترددًا في الوقوف إلى جانب المقاومة لأن حماس طرفًا أساسيًا فيها. أما إذا كان لا بد من الوقوف إلى جانب المقاومة، فلا تذكر حماس، وكأنها غير موجودة، أو لا دور لها في المقاومة.
طبعًا، الكل يسلم بأنه ليس من حق أحد أن يُغلّب صراعًا أيديولوجيًا أو حزبيًا أو فصائليًا على الوحدة الوطنية في مواجهة العدو. لا أحد يقول أن لا يحافظ المعني على أيديولوجيته، أو على خلافه الأيديولوجي مع حماس، أو غيرها، ولكن لا يحق له ألاّ يعدل، وألاّ يُنصف، فيتنكر لحقائق لا تنكر.
إلى هنا أيضًا لا بد من أن نقول: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله". هذا طين فلسطين، وعلينا أن "نلط منه على خدودنا". ولكن حدث في الشهرين الماضيين دخول حماس ومعها كل فصائل المقاومة في قطاع غزة، ولا سيما الجهاد والشعبية والديمقراطية، في حوار مع المصريين تحت عنوان الاتفاق على "تهدئة في القطاع". وقد تبين للجميع أن اتفاق التهدئة في خطوطه العريضة، وجوهره، يقوم على ثلاثة أسس: (1) رفع الحصار عن قطاع غزة (بنسبة معينة) مقابل وقف إطلاق الطائرات الورقية والبلالين (تسبب حرائق في المستوطنات المحيطة بقطاع غزة). (2) تستمر المسيرات الأسبوعية على ألاّ تصل إلى الشريط. (3) يتوقف إطلاق النار على أساس صاروخ مقابل صاروخ، ودم مقابل دم، ومن دون أي شروط تمسّ ما يجري من تسليح أو تطوير للصواريخ أو حفر للأنفاق.
هذا الاتفاق الذي يقوم على كل ما تطمح إليه المقاومة، إلّا أنه وجد من يشكك في حماس ليس من جانب سلطة رام الله، أو من جانب بعض كتاب وصحفيي بعض الأنظمة، بل أيضًا من بين صفوف المقاومة. والسؤال: ما هي الحجة؟ أولًا، هل لكم اعتراض على الاتفاق المطروح وهل سترفضونه؟ الجواب: لا. "طيب" أين اعتراضكم؟ الجواب: نشك في أن ثمة اتفاقًا سريًا من وراء الظهر بين حماس والكيان الصهيوني، حول إجراء تهدئة طويلة الأمد ودائمة، وكادوا يقولون، أو يلمحون، ثمة تفاهم مع "صفقة القرن".
يقول المثل: "الملدوغ من الحية يخاف من جرة الحبل". فالتجربة مع قيادة فتح تسوّغ التشكيك في حماس. حقًا لدغنا لدغات قاتلة، فكيف لا نخاف من جرة الحبل؟ يعني أننا يجب أن نحسن الظن في الذين يشككون؛ لأن للمخاوف عذرًا حتى لو لم يكن لها من سند، وذلك ما دمنا لدغنا ولدغنا ولدغنا.
على أن ما حدث من عملية مخابراتية صهيونية في ليلة الاثنين (11/12 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018)، وما صحبها من معركة مواجهة عسكرية مع كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس أفشلت العملية، أحرج القيادة العسكرية الأمنية السياسية الصهيونية أشدّ الإحراج، وفتح بابًا للتصعيد الصهيوني، وردت المقاومة بكل فصائلها في قطاع غزة بمثله (الغرفة العسكرية المشتركة)، ليتأكد مرة أخرى أن ميزان القوى ليس في مصلحة الكيان الصهيوني، وأن ما سبق وسمي بـ"اتفاق التهدئة" لم يكن في مصلحته أيضًا، وأن العدو الصهيوني في حالة إرباك أمام ما وصلته المقاومة (كل الفصائل ولحماس والجهاد فيها دور مقدر)، من تحدٍ واستعداد وقوة شكيمة ورد الصاع بصاعين.
السؤال هنا: ما الموقف الذي يجب أن يتخذه من ينتسب للمقاومة وراح يشكك في حماس واتفاق التهدئة طولًا وعرضًا، بعد هذا الحدث الكبير في ليلة 11/12 واليومين التاليين، وقد دقت طبول الحرب، واضطر العدو لأن يتراجع ويرضخ بعد ثلاثة أيام من المواجهة؟
ليس المطلوب من الذي شكك الاعتذار، ليس المطلوب الاعتراف بالخطأ احترامًا لمن هم معه في خندق المقاومة أو لمن يحترمونه ويستمعون لرأيه، فهذا أمر هو يقدره، لكن المطلوب التعلم من هذا الدرس، وهو عدم الاستعجال في إطلاق الشكوك، أو المخاوف التي تحمل تشكيكًا. فمن يخاف من جرة الحبل لأنه سبق ولُدِغ؛ فليحتفظ لنفسه بمخاوفه وشكوكه، ولا يعممها حتى لا يَظلم ولا يُشوش، ومن ثم لا يدخل في حرج لا يُحسد عليه من جهة، وحتى لا يُفسد، من جهة أخرى، وحدة وطنية تحققت في قطاع غزة، ويجب أن تعمم لتشمل الضفة الغربية، فتتواصل المواجهة مع الاحتلال والاستيطان، وهي مواجهة، كما تدل موازين القوى، مرشحة للانتصار.