فلسطين أون لاين

​ادّعاء الصلابة عبءٌ على النفس يعرّض صاحبه للانتكاس

...
غزة - هدى الدلو

أشياء كثيرة يستطيع الإنسان بها أن يطور من ملامح شخصيته، ويجعلها أكثر تأثيرًا وفاعلية، ولكنه قد يأخذ منحى خطأ بادعائه أن شخصيته تتمتع بالقوة والصلابة، فيصدّر صورًا قاسية عن نفسه لمن حوله، بتظاهره بعدم المبالاة تجاه أي شيء، ويُقال إن من يتبعون هذا الأسلوب يتحطمون فور وقوعهم، ويظهر كل ما أخفوه، واصطنعوه أمام الناس، وكأن الصلابة قشرة أزيلت عنهم، وكل ذلك بسبب تحميل أنفسهم أكثر مما تحتمل، لماذا يخفي بعضٌ الهشاشة بداخلهم ويظهرون الصلابة؟، وهل لذلك أثر على نفسيتهم؟، وإلى أين يأخذهم هذا التصرف؟، هذا ما نتحدث عنه في سياق التقرير التالي:

عبء

الشاب أحمد علي (26 عامًا) أعرب عن اعتقاده بأن الشخص الذي يدّعي القوة دائمًا يكون هشًّا من الداخل، ويتخذ ادّعاء القوة قناعًا ليستر به ضعفه، أما القوي فعلًا فلا يخجل من ضعفه في بعض الأحيان، ولا يخفي ذلك، وهذا نابع من ثقته بنفسه.

وقال: "الإنسان بطبعه معرض للزيادة والنقص في كل شيء، فمثلًا إيمانه يزيد وينقص، وكذلك القوة، ومن يكن قويًّا بالفعل يدرك هذا الأمر، ويتصرف على أساسه، ومن لديه يقين بأنه إنسان قد يُصاب بالضعف بين الحين والآخر لا يخجل من ضعفه، أما فاقد الشيء فيحاول أن يدعيه".

أما عبير طه (23 عامًا) صاحبة الشخصية الكتومة فقالت: "إن هذه الصفة التي تحملها شخصيتي هي التي تحتم علي أن أتظاهر بالقوة والصلابة أمام الآخرين، خاصة أنني لا أحب أن تظهر دموعي أمام أحد، لذا إن رغبتي في الامتناع عن البكاء أمام الناس رد فعل على أي موقف صعب أمر به تجعلني أُجيد قدر الإمكان التظاهر أمامهم بأن لا شيء يهمني في هذه الحياة، وأني قادرة على تجاوز أي موقف، مهما كان مؤلمًا، وأنني بخير، مهما حدث لي".

واستدركت: "ولكن مجرد أن أختلي بنفسي يبدأ وقت الحساب والعتاب وجلد النفس، ويحين دور البكاء، فتنهمر دموعي التي أخفيتها، وأحيانًا أشعر أنني قد وصلت إلى حافة الانهيار بسبب التظاهر بقوة لا أملكها بالفعل".

وبينت أن ذلك ليس بالشيء الجيد، بل على العكس هو تحميل للنفس فوق طاقتها، وأن التظاهر بصورة أخرى مخالفة لما بالداخل شيء متعب، ويسبب إرهاقًا، وكل ذلك بسبب أنها لا تريد أن تظهر ضعفها أمام من حولها، خاصة أنها على يقين أن لا أحد يستطيع فهم وجع الشخص إلا هو نفسه.

أقوياء بالتدريج

والعشرينية أماني ياسين التي ترى أنها واحدة ممن يدّعون القوة قالت: "هؤلاء الأشخاص تحديدًا لا خوف عليهم، لأن قسوتهم على أنفسهم تجعلهم تدريجًا أشخاص أقوياء، ولابد أن لكلٍّ منهم شخصًا مقربًا، عندما يشعرون أنهم على وشك الانهيار يرمون بضعفهم أمامه ليتسلحوا بالقوة من الجديد".

أضافت: "من الجميل أن تختار الشخص الذي يمكنك أن تكون ضعيفًا أمامه، دون إظهار ضعفك أمام الجميع؛ فبعضٌ يستغل الضعف ممسكًا على صاحبه ليلوي به ذراعه".

ضغوط محيطة

ومن جهته قال الاختصاصي النفسي والتربوي إسماعيل أبو ركاب: "إن الإنسان مركب من مجموعة متكاملة من الميكانيزمات الدفاعية التي تقلل من خطر تدمير الشخصية، ولكن تلك الأجهزة النفسية المعقدة لها حدود للتعامل مع الضغوط المحيطة، فللإنسان القدرة على تحويل المشاعر السلبية إلى سلوكيات إيجابية بكبت المشاعر ووضعها في صندوق اللاوعي".

وبين لـ"فلسطين" أن العمق النفسي المتمثل في ذلك الصندوق له حد استيعاب وقدرة تحمل, وأن الإنسان محكوم بعوامل اجتماعية عدة، من الممكن أن تتحكم في انفعالاته، مثل الثقافة السائدة في بعض المجتمعات، التي ترفض فكرة الاستسلام للضغوط بل تقمع بعض السلوكيات ذات الأصل الإنساني البحت.

وأشار أبو ركاب إلى أنه إذا قمع المحيط تلك السلوكيات التي من شأنها التخفيف من حدة الأزمة؛ فإن بعضًا سيتظاهر بعكس ما يشعر، وربما يعيش الشخص صراعات داخلية كبيرة، من الممكن أن تحرف مسار أفكاره ومشاعره وسلوكياته باتجاهات عديدة.

وأضاف: "الإنسان وليد بيئته، فإذا تمكن من التعبير عمّا بداخله بعفوية ودون رقابة؛ فإنه سيتمكن من التفاعل مع المحيط الاجتماعي بشكل طبيعي وسلس، وإن كان العكس فسيظهر الخلاف الفكري والسلوكي، وربما بعض الشخصيات المرضية التي تعاني من اضطرابات الشخصيات المضادة للمجتمع يكون أساس الاضطراب عندها يكمن في المكبوتات السلبية من طرف بعض الأشخاص تجاه مجتمعاتهم, فالشخص الذي يحاول أن يظهر بمظهر المتماسك والقوي لا يمكن أن يستمر في هذا السلوك طويلًا، لذا نجد هؤلاء ينهارون، وليس شرطًا أن يظهر ذلك أمام الآخرين".

وتابع: "يمكن أن يحدث ذلك بين الشخص المتظاهر بالقوة وذاته الممزقة، ما يعني وجود تصدعات كبيرة في الشخصية ستؤثر على مجرى الحياة المستقبلية"، مشيرًا إلى أن للنفس البشرية طاقة استيعابية لأي ضغوط حياتية خارجية ممكن أن تؤثر على الفرد، ولكن تلك الطاقة تنحدر بشكل سلبي وسريع، إذا كانت الضغوط من داخل الإنسان, فحالة التصنع وابتداع السلوكيات التي تتوافق مع رغبات المجتمع يمكن أن تكون عبئًا إضافيًّا على الشخص بجانب ضغوطات الحياة الأخرى.

وبحسب قول أبو ركاب قد يصل إخفاء الضعف بالشخص إلى الانتكاس، وتظهر حقيقة الصلابة النفسية المزيفة التي حاول تسويقها على الجميع حتى نفسه، وحينها يميل ذلك الشخص إلى الشعور بالتهديد لذاته والمحيطين والمستقبل، وهو ما يعرف بالاكتئاب والانفصال في مكونات الشخصية، ومن أعراض ذلك عدم المبالاة، الذي سيصبح المرافق الشخصي له، وسيزيد من نسبة التوتر والقلق الدائمين لديه.

وأكد أهمية الوضوح والشفافية، والبعد عن نمط الشخصية المزيفة، لما لذلك من آثار ستلاحق الشخص في كل مكان حتى بداخله, معقبًا: "لذا إن الصراحة والوضوح علامة من علامات الشخصية التي تتمتع بدرجة عالية من الصحة النفسية".