أحداث دراماتيكية في قطاع غزة، طائرات إسرائيلية تواصل قصفها العنيف، الاثنين (12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018م)، عقارب الساعة تحطّ رحالها عند العاشرة والنصف مساءً، فادي الغزالي (21 عامًا) سعيد بقدوم عروسته "يارا" (فتاة سورية) التي تصغره بعام، وصلت قطاع غزة الخميس الماضي قادمة من سوريا بعد ثلاثة أعوام من خطبتها، كاد الأمل أن يتبدد عدة مرات ويسقط في وادي الحزن والفراق، لكن القلبين المرتبطين بحبل الحب تشبثا بالأمل حتى آخر لحظة، حتى بات الحلم واقعًا لا يصدقه فادي، وهو أن عروسته أصبحت بقربه وأن زفافهما سيعقد بعد ستة أيام (في الثامن عشر من نوفمبر).
أغلقت العروس ستار الحزن على ما يحدث في الخارج، تصفف أمتعتها مع حماتها، وبدلة زفاف كانت قد زفت بها قبل أسبوع من قدومها لغزة بمدينة دمشق بسوريا أحضرتها معها، تاركة هناك ذكرياتها، وأحلامها التي نمت معها منذ طفولتها، لم يبقَ منها إلا بعض الأمتعة.
العروس سعيدة بمنزلها الجديد، في الخارج ما زالت الطائرات تلقي صواريخها في أنحاء غزة، كل صوت انفجار كأنه زلزال، استمرت بإكمال فرحتها وسط خوف قد عاشت مثله، في ريف إدلب في "خان شيخون" حيث بيتها الأول؛ شهدت على البراميل التي ألقتها الطائرات هناك، رأت الكيماوي يقتل الآلاف، قصف منزلها، لتعيش ما تبقى لها من أيام بسوريا ببيت للإيجار بدمشق، لم تتخيل أن يتكرر المشهد بغزة.
فرحة تقترب
قبل القصف أمضى العروسان يومًا جميلًا، ذهبا إلى السوق لاستكمال التجهيزات فـ"الفرحة تقترب يومًا بعد آخر"، ما إن عادا للمنزل صعدت العروس التي أمضت أيامها الأربعة في غزة قبل القصف في الطابق السفلي عند حماتها، لترتيب شقتها، مسحت أثاث المنزل (كانت سعيدة بشقتها الجديدة)، لم تدرك أن كل شيء سيستبدل وأنها ستلاقي ذات المصير الذي لاقته في منزلها بـ"خان شيخون".
وسط فرحة ممزوجة بالخوف، صوت يخترق نافذة منزل عائلة الغزالي يفزع من بداخله: "اطلعوا من دوركم.. بسرعة"، تركت العروس كل شيء بيدها، فادي ووالدته وإخوته خرجوا أسفل المنزل، كان جميع الجيران يركضون، أطفال، نساء، رجال.. "ماذا يجري؟"، يسأل فادي أحدهم، فرد عليه وهو يركض: "اخلوا البيت بدهم يقصفوا عمارة الرحمة (الواقعة بحي الشيخ رضوان بمدينة غزة وهي ملاصقة لمنزل الغزالي).
سار فادي وعروسته عدة أمتار، دخلوا بيت الجيران، التفتت إلى حماتها بلهجتها السورية: "ماما.. شنتايتي!"، طائرات الاستطلاع تستعد لقصف العمارة بصواريخ استباقية قبل الصواريخ المدمرة، المنطقة أصبحت خالية من أي حركة، أو نفس فالسكون يخيم على المكان، أم هاني (44 عامًا) تضع يدها على كتف فادي وتأذن له بالانصراف: "ماما أهم شيء أوراق عروستك من وين أجبلها غيرهم.. اطلع يما روح بسرعة جيبهم".
(فادي) لوالدته مضطربًا: يما يعني فش خطر؟
(الأم) احتفظت بخوفها على نجلها بقلبها: الله يحميك روح بسرعة.
"كل شيء انتهى".. تدور تلك الهواجس بذهن العريس؛ "بعد كل هذا الانتظار هل ستكون النهاية دمار المنزل والحلم الذي انتظرته ثلاث سنوات؟"، ما زال السكون يخيم على المكان، الجيران بالكامل أخلوا منازلهم، (وكأن فادي يسير بين الموت)، دخل باب منزله وصعد إلى شقته في الطابق الثاني، بحث عن حقيبة عروسته التي تحتوي على أوراق سفرها، وذهبها، وأسطوانة لمراسم زفة وداعها بسوريا، كانت في زاوية الغرفة، ما إن أمسك بها أطلقت طائرة الاستطلاع الصاروخ الأول على المنزل المجاور، بدأت دقات قلبه تضطرب (تذكر أن هناك حلمًا بانتظاره)، لكنه خرج مسرعًا قبل أن تقصف الطائرات الحربية العمارة الملاصقة لمنزلهم.
ابتعد الجميع عن المكان، وصل فادي والدته: "لا تحزن المال معوض"، بها تهون العروس عليه، قصفت الطائرات العمارة السكنية المجاورة؛ سوَّتها بالأرض، تضررت في إثرها كل المنازل المحيطة، طال جزء كبير من الدمار شقة العروسين.
في اليوم التالي، بعد تلك الليلة القاسية التي لم ينَم فيها العروسان وجميع من نزح بعد ذلك الدمار، أشرقت شمس الحزن على قلبي فادي وعروسته، يجلس على حجر من آثار الدمار بداخل غرفته، وحوله حجارة متطايرة من جدران الغرفة والعمارة السكنية المجاورة تغطي سرير النوم، خلفه خزانة الملابس معلق عليها بدلة زفاف عروسته، شاهدة على فرحة قتلت، ينظر من فتحة كبيرة أسفل حائط الغرفة إلى الدمار الذي حل بالمنطقة.
يلتفت فادي حوله إلى طقم الأثاث في غرفة النوم، يخرج تنهيدة بصوت ممزوج بالحسرة: "كنا قبل القصف، نصفف الأمتعة، نخطط لحفل الزفاف بعد ستة أيام، لكن كل شيء تأجل وألغي، فالدمار كبير"، يعود إلى لحظة ذهابه لإحضار حقيبة عروسته: "ذهبت لأجل مستقبلها وحياتها، رغم القصف، شعرت بتحملي لمسؤولية كبيرة عليّ تنفيذها وإحضارها لأنها تتعلق بمصير شخص كافحت لأجل قدومه لغزة".
يسير فادي في أرجاء شقته المدمرة، يجلس على كرسي في صالة استقبال الضيوف، ينفض غبار آثار القصف عنه، يسحب زفيره ألم قائلًا: "لقد جهزنا الشقة معًا، رغم وجود عروستي بسوريا، كنت أرسل لها الصور عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ونختار الأثاث والستائر، وأدوات المطبخ".
3 سنوات "وفيزا!"
بداية الارتباط، تعرفت العائلتان قبل ثلاث سنوات بحكم روابط نسب بينهما، زادت عبر مواقع التواصل، طلب فادي من والدته خطبة يارا، لم تعارض العائلتان، لكن وبعد محاولاتهما لإحضار العروس لغزة، فشلت في ست منها، وصل الجميع لنتيجة.. "أن قدوم العروس لغزة مستحيل".
لكن المستحيل يمكن أن يصبح ممكنًا، تعلقت أم فادي وابنها والعروس بخيط رفيع من الأمل، لا تنسى والدته التي تمسك ثوب زفاف العروس بيديها تلك المحاولات: "خاطبت قبل ثلاث سنوات، سفارة السلطة بمصر والسفارة المصرية بسوريا، راسلت كل المسؤولين وأصحاب القلوب الرحيمة، التي اكتشفت أنها ليست رحيمة، حتى بدأت أفقد الأمل في تجميع العروسين، فلم يساعدنا أحد".
كل ستة أشهر كانت يارا، تقدم طلبًا للسفارة المصرية للحصول على "فيزا" سفر لغزة، في كل مرة يرفض طلبها، وتعاود الكرة بعد ستة أشهر أخرى، وهكذا ضاعت ثلاثة أعوام من الانتظار، سرد الحكاية لم يتوقف، يكمل فادي نيابة عن والدته: "بعد ما بذلناه من محاولات لإحضار عروستي، اتصلت بها في المرة الأخيرة السفارة المصرية أخبرتها أنه جرى قبولها كحالة إنسانية للدخول لغزة".
تسللت السعادة إلى قلوب العروسين، زاد الأمل بلقاء قريب، أقامت العروس مراسم زفاف ووداع لأهلها بسوريا، تركت هناك مشاهد الدمار والقصف وأصوات الصواريخ، واكتفت بالاحتفاظ بها بمخيلتها، لم تتوقع أن تسمع نفس الأصوات في غزة.
الاثنين 5 نوفمبر/ تشرين الثاني، الخامسة والنصف مساءً، ودعت العروس سوريا، وحطت رحالها بعد ساعات إلى مطار القاهرة، استقبلها زوجة شقيق حماتها، ومعها بدأت معاناة أخرى، أمضت الليلة عند تلك العائلة التي استضافتها، وما إن أشرقت شمس الثلاثاء، حزمت ما جلبته من أمتعة للذهاب لغزة.
أم هاني تروي ما جرى بعد ذلك: "ذهبت زوجة أخي مع العروس في سيارة خاصة، لإيصالها إلى معبر رفح، كانت الوثيقة السورية معوقًا كبيرًا لدخولها لغزة، كان الضباط المصريون يحققون معها في كل نقطة للشرطة والجيش".
قتل وتدمير الحلم
تخطت العروس كل الطرق والحواجز، ومعها يقترب الحلم بلقاء عريسها لأول مرة، حتى وصلت ما يسمى نقطة "المعدية" في سيناء، أوقف الضابط السيارة وطلب الأوراق الثبوتية، تفحص أوراقها، وأمسك بطاقة التعريف ليارا، وسألها: "شو جايبك على فلسطين؟"، التزمت العروس الصمت وردت عليه السيدة المرافقة: "هذه بطاقة تعريف وهي ذاهبة لزوجها"، بقي متعنتًا قال باللهجة المصرية: "كله كدب ما فيش معها إقامة.. مين الحمار اللي دخلك؟"، بدأ الأمل يتبدد في قلب العروس: "هل سأعود لسوريا مرة أخرى؟ هل كل ما فعلته للقدوم لغزة سينتهي؟"، تساؤلات داخلية تتمنى عدم حدوثها، في المحيط كانت الأمور في سيناء متوترة لاشتباكات تدور بين الجيش المصري ومسلحين، سمعت العروس والسيدة المرافقة صوت الانفجارات وإطلاق النار.
الضابط يأمر الجنود: "ارمي اوعيها فتشهم"، انتهى الجنود من التفتيش، أعاد الضابط الأوراق الثبوتية، توقعت العروس أن يقول لها: "تفضلي بالمرور إلى غزة"، لكن الرياح جاءت عكس التوقعات، "ارجعي من حيث جئتِ"، كانت كلماته تلك كصاعقة وقعت على قلبها، عادت السيارة للخلف، اتصلت بحماتها التي بدورها طمأنتها، فقررت العروس تحدي الظروف.
سارت يارا والسيدة المرافقة مسافة طويلة، سيرًا على الأقدام توارت فيها عن أنظار الجنود، كانت محاولة خطرة قررت اتخاذها، فلا يمكن هنا العودة للخلف، المسافة إلى قلب فادي لم تعد كبيرة، تحملت مشقة المسير، وصلت للنقطة التي اتفقت بها مع السائق، الذي أوصلهم لمعبر رفح الحدودي مع غزة.
الساعة الثانية عشرة منتصف ليلة الخميس، في صالة المعبر كان فادي ينتظرها، تعانقت القلوب، ارتفعت دقات شوقها، تبادلت العيون رسائل الحب من بعيد، فكل صور الدنيا لا تغني عن لحظة لقاء، "أخيرًا اجتمعنا" قالها فادي لعروسته، ظن أن كل مرحلة العذاب والمشقة والتعب انتهت، عاد لمنزله بزفة أعدها لعروسته، وأصوات الفدعوس والألعاب النارية تطلق من السيارات المرافقة له.
تحدت هذه العروس كل شيء من أجل الوصول لفادي، كادت خيوط الارتباط تنقطع بعد فشل محاولات السفر، بعد نصيحة أهلها بفسخ الخطبة، لكنها أصرت على تخطي الصعاب، يشجعها كلام فادي: "حستناك لو ستين سنة".
تشير أم هاني بيديها إلى ملابس العروس التي طالها غبار الدمار ملقاة على الأرض بإحدى الغرف، يمتزج صوتها بالمرارة: "صواريخ (إسرائيل) دمرت حلم عروسين عمره ثلاث سنوات، عاشوا معاناة كبيرة قبل أن يجتمعا بهذه الشقة، قتل فرحة العروسين وفرحة نجلي".
في غزة كل شيء يمكن أن يتغير في لحظة ما؛ هنا لا مواعيد للفرح ولا مواعيد للحزن، عندما تكون صواريخ الطائرات الإسرائيلية حاضرة فهي لا تعرف إلا الدمار والدماء، والقتل، قتلت فرحة العروسين كما قتلت أرواح الكثيرين من أبناء القطاع، لكن بقي فادي وعروسته مع أمل يتجدد بالفرح وإقامة حفل الزفاف، وهذه المرة بالتفاف عائلي وشعبي حولهما، فقصتهما أثارت تعاطفًا كبيرًا محليًّا وخارجيًّا، أظهرت وحشية الاحتلال في قتل الإنسان والحياة في غزة.