يلتف حبل غليظ حول كفيه متداخلا مع شقوق وتقرحات صنعتها 5 عقود من العمل في مهنة صيد الأسماك، وتنغرس قدميه في رمال الشاطئ قبل أن يخرجها ويرجع خطوة واحدة للوراء ساحبا شباكه الثقيلة بكل ما يملك من قوة لتتدفق ملامح الإرهاق إلى وجهه وبياض عينيه المصبوغ بحمرة ليلة طويلة قضاها مبحرا.
وبعد دقائق من السحب ظهرت الشباك أخيرا لتختفي معالم الإرهاق من وجه الصياد الفلسطيني العجوز عيد أبو هيثم، فقد حظيت شباكه بصيد وفير وظهرت فيها أسماك "البوري والغزلان والتونة الصغيرة" وهي تقفز محاولة العودة إلى المياه.
وما هي إلا دقائق حتى تجمع الناس على الشاطئ حول شباك الستيني أبو هيثم الذي بدأ بمساعدة ثلاثة من أبنائه في جمع الأسماك ووضعها في صناديق بلاستيكية قبل أن يغمرها بالثلج استعدادا لتوريدها للسوق.
وبينما يجمع أسماكه، يقول العجوز الفلسطيني للاناضول: "الحمد لله كان الصيد اليوم وفيرا، يمكن أن نبيع هذه الأسماك بـ500 شيكل (نحو 140 دولار)، لدي الكثير من النفقات الخاصة بالمنزل والعمل وهذا المبلغ سيكفي".
"عملنا مرهق جدا ويسبب لنا أمراض كثيرة خاصة آلام الظهر والمفاصل الناتجة عن الجهد الكبير الذي نبذله إضافة لأجواء البرد الشديد التي نعمل بها، لكن في النهاية هذا مصدر رزقنا الوحيد ولا يمكن أن نتركه"، يضيف الصياد العجوز.
ولا يستطيع أبو هيثم الاعتماد على أبنائه كليا في رحلات الصيد فلا بد من "ريس" (قائد المركب) يديرهم معتمدا على خبرته الطويلة في هذا العمل.
وليس بعيدا عن شباك أبو هيثم كان قارب كبير يطلق عليه محليا اسم "اللنش"، يرسو في ميناء مدينة رفح، أقصى جنوبي قطاع غزة، بعد رحلة صيد طويلة استمرت 18 ساعة متواصلة من عصر اليوم السابق.
وقبل أن يصل المياه الضحلة توقف القارب وألقى طاقمه مرساة صدئة في المياه ليهبط منه صياد عجوز يربط على رأسه كوفية قديمة يحرك نسيم الصباح خيوطها المنسولة، إلى "حسكة" (مركب صغير) نقلته إلى الشاطئ الذي ما إن وصله حتى أجبرته آلام مفاصله على الجلوس على صخرة قريبة.
ومن على صخرته بدأ الصياد الستيني جمال محمد يوجه طاقم قاربه بإنزال السمك الذي اصطادوه بسرعة وتغطيته بقطع الثلج لينقله على متن شاحنته الصغيرة إلى "حسبة الأسماك" في مدينة غزة فهناك يمكن أن يبيعه بسعر أعلى مما هو عليه الحال في رفح، لأن حجم الطلب على شراء الأسماك هناك أكبر.
وبينما ينقل العمال صناديق السمك من "اللنش" إلى "الحسكة" ومن ثم للشاطئ، يقول الريس جمال لمراسل الأناضول: "الحمد لله كان الصيد جيدا، حصلنا على كميات جيدة من أسماك السردين والغزلان والطرخون".
وقبل أن يكمل حديثه أصابت صعقة ألم مفصل ساقه وغيرت مسار حديثه ليقول: "لم أعد أستطيع تحمل هذه الآلام سأرسل ابني لبيع الأسماك وأعود للمنزل لأحصل على قسط من النوم قبل أن يحين موعد رحلة الصيد التالية".
والفلسطيني العجوز جمال يعمل في صيد الأسماك منذ كان عمره 15 عاما، حتى بات الصيد يمثل كل شيء في حياته، ورغم آلام المفاصل والظهر والرقبة التي ترافقه منذ سنوات جراء هذا العمل إلا أنه لا يفكر بتركه فهو مصدر رزق عائلته الوحيد خاصة بعد أن تخرج ثلاثة من أبناءه من الجامعة ولم يجدوا عمل.
ويقول الصياد، الذي يلقب بـ"القبطان"، إن العشرات من الصيادين في غزة تخطت أعمارهم الستين عاما إلا أنهم يواصلون عملهم في هذه المهنة القاسية والخطيرة لأنها تمثل مصدر رزقهم، والعمل الوحيد الذي يتقنوه.
ويواجه الصيادون خاصة كبار السن منهم في فصلي الشتاء والخريف ظروفا مناخية قاسية فدرجات الحرارة تكون منخفضة بشكل كبير في عرض البحر، والبرد يتسلل إلى عظامهم الوهنة ويتسبب لهم بآلام شديدة.
كما أن رحلات الصيد تبدأ من وقت العصر وتنتهي في فجر اليوم التالي وهو ما يتطلب يقظة دائمة وجهدا مضاعفا من الصيادين.
ولكن ليس كل الصيادين كبار السن يعملون في البحر فمنهم من تقاعد وسلم قواربه ومعدات الصيد لأبناءه وبات يطلق عليه اسم "ريس بر"، وتكون مهمته توجيه أبناءه واستلام السمك الذي يتم صيده وبيعه للتجار وتوزيع الأجور على العمال والأرباح على أبناءه بعد أن يقتطع جزء لنفسه باعتباره مالك القوارب والمعدات.
الريس أحمد الندى (68 عاما) أحد هؤلاء الصيادين، ترك كل ما يملك لأبناءه وبات مشرفا عليهم وموجها لهم.
وتظهر على جسد "الندى" النحيل أثار (50 عاما) قضاها على متن قاربه في عرض البحر، فعظام وجهه بارزة وجلد أطرافه مليئ بالتشققات والقروح الجافة وعيونه ذابلة ويتداخل في بياضها خيوط حمراء.
ويقول "الندى" لمراسل الأناضول، بينما كان يخيط إحدى شباكه الممزقة: "حياتنا في عرض البحر كلها خطر بداية من الأمواج العاتية وانتهاء بالتعرض لإطلاق النار أو الاعتقال من قبل قوات بحرية الاحتلال الإسرائيلية".
وبحسب نقابة الصيادين الفلسطينيين، فإن قوات الجيش تطلق بشكل شبه يومي نيران أسلحتها تجاه مراكب الصيادين، وتصيب وتعتقل عددا منهم بذريعة تجاوزهم منطقة الصيد التي حددتها تل أبيب (6 أميال بحرية).
ولعل أكثر موقف مازال عالقا في ذهن الصياد الفلسطيني العجوز، عندما دفع أحد الزوارق الإسرائيلية قاربه ليقلبه رأسا على عقب في ليلة شتاء معتمة وماطرة، وبدأ بإطلاق نيران أسلحته الرشاشة تجاهه بكثافة.
في ذلك الوقت شعر "الندى" بأن حياته انتهت وبدأ بترديد آيات يحفظها من القرآن الكريم قبل أن يتوقف زورق بحرية الاحتلال الإسرائيلية عن إطلاق النار وينسحب ليتقدم أحد قوارب الصيادين وينتشله من المياه ويعود مسرعا إلى الشاطئ.
لم يصب الصياد الفلسطيني حينها بالرصاص الإسرائيلي لكنه فقد كافة معدات الصيد ونجح بصعوبة في اليوم التالي بانتشال قاربه من المياه.
ومهنة الصيد واحدة من أهم المهن التي يعمل بها سكان غزة، ووفق نقابة الصيادين الفلسطينيين، فإن نحو 4 آلاف صياد في القطاع، يعيلون أكثر من 50 ألف فرد، يعملون في صيد الأسماك.
وتراجعت مهنة صيد الأسماك بشكل غير مسبوق، خلال السنوات العشرة الماضية، نتيجة لتراجع حجم الصيد اليومي لمئات الصيادين، بسبب القيود التي يفرضها الاحتلال على المساحات التي يسمح لهم بالصيد فيها.
وتنص اتفاقية أوسلو وما تبعها من بروتوكولات اقتصادية، على حق صيادي الأسماك في قطاع غزة، بالإبحار لمسافة 20 ميلاً، بهدف صيد الأسماك، إلا أن ذلك لم ينفذ حتى الآن.