في ميناء الصيادين غرب مدينة غزة، حيث تتناثر خيام النازحين الهشَّة وحطام قوارب الصيد المدمرة، تنهض ورشة صغيرة في زاوية هادئة منه، ينهمك تحت سقفها مجموعة من العمال في إصلاح القوارب الناجية من حرب الإبادة.
وبين ما تبقى من قوارب صيد نهشها القصف الإسرائيلي العنيف وألحق بها أضرار كبيرة، يسير الشاب عطية مقداد ويتفقد التشققات فيها، يمرر يده عليها كأنه يتحسس جرحًا غائرًا.
ورغم حجم الدمار، يصر مقداد على مواصلة عمله في صناعة وصيانة القوارب، في ظل فقدان المواد الخام وغياب الأدوات، محاولاً منح الصيادين فرصة للعودة إلى ركوب البحر من جديد.
ويملك مقداد في الثلاثينات من عمره، خبرة كبيرة في صناعة القوارب وصيانتها، وهي المهنة التي ورثها على والده قبل أعوام طويلة.
وقال لـ "فلسطين أون لاين": "كانت ورشتنا مخصصة لصناعة القوارب، لكنها صارت الآن لصيانتها فقط بإمكانيات شبه معدومة، فليس أمام الصيادين بدائل أخرى للعودة إلى البحر سوى إصلاحها."
وأضاف، أن الاحتلال دمر معظم قوارب الصيد، ولم يبق سوى عدد قليل يحتاج إلى ترميم وصيانة، وهو ما يدفعه للعمل ساعات طويلة في النهار بلا توقف.
وبين الممرات الضيفة للورشة، يجمع مقداد بقايا المراكب المحطمة والخشب المقتلع من أبواب المنازل المدمرة، ليحولها إلى قطع يستخدمها في إصلاح القوارب أو صناعة مجاديف جديدة.
ويشير، وهو يحمل قطعة خشبية قرر صنع مجداف منها، إلى أن اعتماده على القطع الخشبية كان بفعل ندرة "الألياف الزجاجية" و"الفيبرجلاس" المادتين الأساسيتين المستخدمتان في صنع وصيانة القوارب.
وبحسب قوله، فإن ما تقبى في غزة من كميات من هذه المواد، ضئيلة جدًا، وارتفع ثمنها أضعافًا مضاعفة، وهو ما يفوق قدرة الصيادين الذين لديهم قوارب قابلة للصيانة بعدما دمرت الحرب ظروفهم الاقتصادية أيضًا.
وكان ميناء الصيادين الذي يحتضن بين أرصفته الخرسانية عدد كبير من قوارب الصيد مختلفة الأحجام والأشكال، تعرض لضربات جوية عنيفة شنها جيش الاحتلال في خضَّم حرب الإبادة التي بدأها يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واستمرت سنتين.
وأدت تلك الضربات، إلى فصل الرصيف البحري المصنوع من الخرسانة المسلحة ويمتد لمئات الأمتار في عرض البحر، إلى نصفين، وجعلت الجزء الغربي منه أشبه بجزيرة عائمة.
أما القوارب التي كانت راسية في حوض الميناء، فهي لم تسلم أيضًا من القنابل والصواريخ والمقذوفات العسكرية الإسرائيلية، وأغرقت غالبيتها في الأعماق بعد أن أحرقتها ودمرتها، ولم يعد يرى منها سوى أجزاء وقطع صغيرة تطفو على السطح.
يؤكد مقداد أن صيانة القوارب حاليًا في ظل انعدام المواد والإمكانيات اللازمة، صار مهمة شاقة جدًا، وأدى إلى ارتفاع التكاليف، وعدم قدرة الصيادين على توفيرها.
ويواجه هذا الشاب تحديات أخرى أدت إلى تعقيدات في صيانة القوارب، خاصة مع عدم توفر تيار كهربائي منتظم يساعده على الاستمرار في عمله، فيما يلجأ إلى الاعتماد على الطاقة الشمسية لتشغيل ما لديه من معدات وأدوات كهربائية بسيطة.
وتابع: "نحاول من العدم إصلاح القوارب وتحسين حالها حتى تتمكن من الطفو مجددًا. يأتي الصيادون إلى الورشة محاولين منح أنفسهم فرصة جديدة للإبحار والبحث عن قوت عائلاتهم."
يروي مقداد أيضًا، أن أزمة ندرة المواد الأساسية اللازمة لصناعة القوارب وصيانتها ليست وليدة اليوم، إذ فرض الاحتلال قبل حرب الإبادة قيودًا حالت دون إدخال مادة "الفيبرجلاس" لسنوات عديدة، بزعم الاستخدام المزدوج، وبحلول 2022 سمح بوصولها إلى غزة ومراقبتها عبر مؤسسات الأمم المتحدة.
وسبب ذلك تراجعًا كبيرًا في صناعة القوارب وصيانتها، وأفقد آلاف الصيادين القدرة على الإبحار وصيد الأسماك من جديد، وترك تداعيات خطيرة على ظروفهم الاقتصادية مع غياب الدعم الإنساني وتشديد حصار غزة.
ويواجه أكثر من 4 آلاف صياد واقعًا مريرًا بسبب حرب الإبادة وتدمير 95 بالمئة من قطاع الصيد، وفق ما يؤكده رئيس نقابة العاملين في قطاع الصيد والإنتاج البحري زكريا بكر.
وبين بكر لـ"فلسطين أون لاين"، أن انتهاكات بحرية الاحتلال الإسرائيلي تصاعدت خلال الحرب بحق الصيادين، ومنع دخولهم إلى البحر، فيما يلجأ من تبقى لديه من شباك متهالكة وقوارب صغيرة إلى الصيد في مناطق شاطئية لا ينجون فيها أيضًا من الملاحقة والاعتقال وإطلاق النيران من الزوارق الحربية.
وكان جيش الاحتلال -بحسب بكر- قتل 230 صيادًا على الأقل إبَّان الحرب في مناطق مختلفة من قطاع غزة، بينهم صيادين استشهدوا خلال ممارسة الصيد، فيما اعتقلت بحرية الاحتلال قرابة 60 صيادًا، بينهم 24 منذ بدء سريان وقف إطلاق النار يوم 10 أكتوبر 2025.