قبل يومين اقتحم عناصر من جهاز الأمن الوقائي منزل الأسير المحرر ناصر حبايبة في جنين، وعندما لم يجدوه اعتدوا على أفراد المنزل، ما أدى إلى إجهاض حمل زوجته، واعتقال نجله ذي الخمسة عشر عامًا، وفي كلّ يوم تحدث اعتداءات مماثلة في أنحاء الضفة الغربية جميعًا، وتستمر الاعتقالات والاستدعاءات وعمليات التعذيب في السجون، في سياق إصرار السلطة وأجهزتها على "احترام" مهمتها المقدسة، والقاضية بإبقاء ساحة الضفة الغربية في حالة شلل وفراغ من أي نشاط تنظيمي فاعل في مجال مقاومة الاحتلال.
تمرّ هذه الحوادث مرور الكرام، لأن منفّذيها يرونها ضمان بقائهم وصمام أمان مشروعهم السياسي، ولأن مستنكريها ألفوها إلى درجة أنهم لا يجدون فيها أي جديد، ولأنهم يؤمنون بأنها أفعال تمثّل الوجه الحقيقي لهذه السلطة، لكن الطامة أن سياسة الاعتداءات الممنهجة هذه تغيب عن بال منكريها حين يتعلّق الأمر بالمصالحة ولقاءاتها وتفاصيلها، وكأن واقع الضفة بات شأنًا ثانويًّا لا يُلتفت إليه إلا لأغراض التغطية الإعلامية، أو الاستنكارات التقليدية، أو الاستدلال به عند الحاجة، وفي مقام التنظير المجرّد الخالي من المساعي الملموسة لتغييره.
طوال السنوات العشر التي أعقبت الانقسام لم يشهد أي مسعى لتحقيق المصالحة جهدًا فعليًّا لإزالة موانعها الحقيقية، أو تشخيصًا واقعيًّا لأسباب الانقسام، وما أفرزه استفراد السلطة بالضفة من سياسات خطيرة بات الاستمرار فيه ضمانًا شبه وحيد لبقاء هذه السلطة، ولعلّ حركة فتح نجحت في ترحيل الملفات الثقيلة أو تغييبها، وإشغال الساسة بتفاصيل إجرائية، أو حملهم على تصديق أن الإشكاليات التي تحتاج لحلّ موجودة في غزة فقط، وأن الضفة حيث تحكم فتح وتدّعي لقيادة سلطتها شرعية مطلقة ليس فيها ما يستدعي البحث والتفاوض والمناقشة.
وهكذا تحوّلت قضية مركزية أصلها خطيئة التنسيق الأمني مع الاحتلال، وتطبيقاتها اعتقالات واعتداءات يومية لمعارضي السلطة وأنصار المقاومة؛ تحوّلت إلى مسألة فرعية، إلى درجة أن بعض البسطاء يصدّقون أن تحقيق المصالحة سيؤدي تلقائيًّا إلى إنهاء مشكلة الضفة، ذلك أنهم صدّقوا بالأساس أن الاعتقالات فيها من إفرازات الانقسام، وليست من استحقاقات أوسلو ومشروع السلطة.
ومع تضخّم مشكلات غزة التي أفرزها الحصار الصهيوني بمباركة من قيادة السلطة إن هذه المشكلات باتت تُستخدم أداة ابتزاز في جميع حوارات المصالحة، بهدف تحصيل تنازلات سياسية من حماس لقاء التخفيف من تلك المشاكل لا إنهائها، ولكي تظلّ الأنظار منصرفة عن الكارثة السياسية والأمنية في الضفة التي تتعاظم ولا تتضاءل، حتى تغدو شأنًا مألوفًا، إلى درجة أن أغلب الناس (مثلًا) تعرف بالدليل كيف أن اعتقال السلطة لأي ناشط يعني بالضرورة انكشافه أمام الاحتلال ثم اعتقاله لديه بعد خروجه من سجون السلطة، وأن كثيرين ممن يحالون إلى التحقيق لدى الاحتلال يجدون تفاصيل التحقيق معهم في سجون السلطة حاضرة لدى ضباط مخابرات الاحتلال، غير أن الدلالات الخطيرة لهذه السياسة المستمرة لا تُثير استهجانًا يكافئ خطرها، وفي أحسن الأحوال ستجد من يقول: إن كل شيء متوقّع من هذه السلطة، فلمَ العجب؟!
لكن التناقض يبلغ مداه الأقصى عند التعامل مع هذه السلطة شريكًا وطنيًّا كاملًا، وطرفًا رسميًّا مستقلّ القرار، في حين لا يقترب أحد من حدود الوصاية الأمنية التي يفرضها الاحتلال على السلطة وما تتطلبه من استحقاقات خطيرة، وعندما يستمر الحديث عن متطلبات الشراكة مثل حكومة الوحدة الوطنية والانتخابات وغير ذلك من القضايا، مع أن التجارب الماضية دلّت على هشاشة هذه الجوانب وأظهرت عوارها، مثل حكومة التوافق الأخيرة، ومهزلة الانتخابات البلدية في الضفة وما رافقها من مجازر أمنية تعاون على تنفيذها الاحتلال والسلطة، ما أفقدها الحد الأدنى من النزاهة، قبل تأجيلها.
لأجل كل هذا ستظل "المصالحة" حبرًا على ورق، وسيبقى ما يرشح عنها من إجراءات مجرّد حلول تسكينية موضعية وشكلية، لن تقدّم في المسيرة الفلسطينية خطوة واحدة إلى الأمام، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.