أثارت أخبار تسريب بعض البيوت العربية في (القدس الشرقية) لجهات استيطانية يهودية ردود فعل غاضبة امتلأت بها صفحات التواصل الاجتماعي، وعبّرت عنها بعض المقالات المنتقدة في الصحافة المحلية.
من الطبيعي أن يختلف أصحاب المواقف في كثير من التفاصيل، لكنهم أجمعوا كلهم تقريبًا، على تحميل السلطة الفلسطينية المسؤولية الرئيسية عمّا جرى ويجري في هذه القضية الحارقة، التي شهدت المدينة والعالم فصولها الموجعة على حلقات، لم تنفك تتداعى أمامنا وتكشف عن خاصرة فلسطين الدامية.
تتحمّل السلطة الفلسطينية ومؤسّساتها، من دون شك، الحصة الأهم والمسؤولية الكبرى عن مسلسل التفريط، وعن تسريب العقارات في (القدس الشرقية)؛ لكنني رغم ذلك، أعتقد أن حصر هذه التهمة عند أعتاب السلطة فقط سيعفي، تلقائيًا، جهات أخرى شريكة في المسؤولية عن “سقوط” المدينة وعن انهيار أرصفتها ومتاريسها الوطنية الواقية، وعن إعطاب كوابحها الاجتماعية والأخلاقية. جميع هذه العوامل وقفت حائلًا، على مدار عقود، ومنعت توفير الحواضن لتكاثر قوى السوء ولعربدة قادة الشوارع الجدد، كما هو حال المدينة في السنوات الأخيرة.
عجز السلطة مستفزّ وقصورها المزمن موجع؛ ولكن ستبقى سياسة (إسرائيل) هي العامل الأساسي المؤثر على مجمل التحوّلات التي طرأت على المدينة، وعلى جميع بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وسيبقى، كذلك، بمنأى عن موقف السلطتين في رام الله وغزة، تفاعل المقدسيين وتعاطيهم المحافظ مع تلك السياسات الإسرائيلية، من أهم العوامل التي أوصلتنا إلى هذه المنزلقات. فمن واكب هذه الحقبة سيلاحظ كيف تغيّرت، بشكل “ثوري” سياسة قادة اليمين الجديد، تجاه المدينة وتجاه سكانها، خاصة في ظل قرار حصارها وفصلها عن باقي مناطق فلسطين المحتلة، وبعد إغلاق “بيت الشرق” ومعظم المؤسسات المدنية الفلسطينية، والبدء في محو أنقاض وخرائب ومخلّفات حرب الـ1967، والشروع الفعلي في استحداث “أورشليم- القدس” وعدم إبقائها ابنة للمزامير وللشعار السياسي. لقد تعمدوا إعمارها كمدينة من “تراب ومن حجر وناس” لا يستمرون في العيش رهن “الأسوار” القديمة المعترف بها دوليًا. وفي المقابل سنلاحظ كيف تصدّعت الحصانة الأهلية الوطنية وتحوّلت القدس بين أهلها إلى مجرد “بيوت للرب” مختلف عليها، وإلى حواضر استعادت فيها الحمائل هيئتها كملاجئ آمنة وكمصادر عز وقوة لأبنائها. عشرون عامًا مضت التبس فيها معنى الوطن واختفت عروس القصائد بين الغمام والدخان والرؤى.
كانت سياسة صقور اليمين الجديد خبيثة وماحقة فهم بخلاف قادة حزب العمل وحلفائه التقليديين، قرروا ابتلاع كل المدينة وهضمها من جديد، وإعادة بعثها في جغرافيا رخامية، لتكون كأناء كفيل بصهر المقدسيين العرب وإذابتهم داخل “شرايينها”. لقد لوّحوا لمواطنيها التائهين بعشرات العصي ورفعوا لهم، إلى جانبها، بعض سيقان الجزر؛ فمن يرضَ منكم يا عرب سيبقى بيننا وسيعش ومن يتمرد سيرحل وسيلقَ الذل والمرارة والعوز.
لقد عمدت (إسرائيل)، في البدايات، إلى تهميش وإضعاف قطاعات المعيشة والخدمات الرئيسية في (القدس الشرقية)؛ لكنها، وفي معرض “ثورتها” الاقتلاعية، قررت الانقضاض على جميع أوردة الدم وعلى أثداء المدينة؛ فنجحت، بتهديدها وبترغيبها وباستعمالها أساليب عديدة، في بسط سيطرتها على معظم القطاعات، مثل الصحة والتربية والتعليم والسياحة والرفاه والتطوير، وربطت معظمها “بصرتها” حتى صارت هوية هذه القطاعات الفلسطينية عائقًا في وجه بقائها وازدهارها وعيشها السهل المريح.
إنها عملية محكمة ومسيرة جديرة بالدراسة العميقة؛ فاليوم لم يعُد الاحتلال “حجرًا” يضغط على قلوب جميع المقدسيين؛ بل تحوّل عند بعضهم، إلى أنابيب تمتد و”تحتل” أنوف المدينة الجديدة، وتمدّ رئاتها بالهواء وبالدواء والدولار وبالزيت والزعتر.
أعرف أن البعض لن يوافقني، وقد يمتعض آخرون من كلامي فيرفضون مواجهة الواقع، لكنني على قناعة بعدم وجود مخرج من ورطة المدينة ومأساتها إلا اذا أقرّرنا ببؤس ما وصلت إليه وخطورة أزمتها المعاشة في هذه الأيام.
لن يسعف التلويم، المحقّ طبعًا، على سلطة رام الله، الضعيفة أصلًا والمحاصرة، باب حطة وكنيسة القيامة، ولن ينقذ الهجوم على السلطة وحدها “خان الزيت” والمسجد الأقصى؛ فتاريخ صمود المدينة، في الماضي القريب، علمنا أن “قطران” أهلها، لو أرادوا، قد يكون كافيًا وشاهدًا وشافيًا.
واجهت القدس محاولات إسقاطها في زمن الراحل فيصل الحسيني الذي انتصب في وجه سياسة شارون ونتنياهو كالمستحيل، فكان القدوة في التضحية وفي اجتراح وإهداء الأمل للعاثرين وللفقراء ولأصدقاء الفجر؛ لكنّها كانت “حكمة” السماء التي أهدت (إسرائيل)، برحيله الملتبس، فرصتها الرصاصية، فأتمّت بعده ضرباتها حتى كسرت عامود خبائه وصار فوقها الفضاء مثقوبًا. لم يـُبعث في المدينة فيصل جديد. أغلقت (إسرائيل) جميع الأبواب في وجه مؤسسات السلطة وضيّقت على وكلائها ولاحقت مندوبيها وسجنت عملائها. حاول بعض المناضلين المقاومة، ولكنّ انفاسهم كانت أقصر من أنفاس “هيدرا” وتصميمها على التهام أحلامهم وهياكلهم والقضاء على قسمات هويتهم. نجحت (إسرائيل) في برامجها فارتفع في المدينة منسوب الشهيّة الفردية وانتشرت الانتهازية وساد اللهاث وراء المصلحة، فاختفى من الشوارع والضواحي نمط المواطن المقدسي الغيور والمثقف العضوي الفعّال؛ وانتعش، في المقابل، السمسار القبيح والدجال. ضعف الشرفاء واحتاجوا ، فاستقوى المفسدون وتمادى المحتالون والمقامرون اجتاحوا.
عزلت القدس عن محيطها الفلسطيني بشكل محكم، فشعر المواطن العادي بالإحباط المزمن وبحالة من اليتم الوطني. تحوّلت بقايا المؤسسات المدنية إلى أجساد مدجّنة ومهادنة فتعايشت مع هوامش الواقع الجديد وطفقت تنتج أسباب وجودها الخاصة بمنأى عن مصالح المجتمع الحقيقية. لم تتعدّ مواقف معظم الأشقاء العرب إغواء السراب وفنون النفاق وسحر الشعار، وأكاذيب الدول الاسلامية استُثمرت في صناديق العلاقات الاستراتيجية المتطورة مع الحكومات الإسرائيلية ومع الموساد.
فشلت السلطة في تعاملها مع القدس خاصة في القضايا الكبرى، فوقفت القدس عارية في عصر كله خديعة وتيه ونفاق. ولكن.. لا تعفوا فيها عن كل من احتمى بزرقة هويته وآثر النوم في أحضانها على صعود الجبال. ولا تغفلوا صمت وسائل الإعلام وخوف بعض أعلامه أو تواطؤ من كان منهم في خدمة الشيطان، ولا تسامحوا القيادات “اليسارية الثورية” الغافية وتذكّروا مهاترات الرعاة والدعاة. ستبقى السلطة المسؤولة “بأل التعريف”، لكنّ من الظلم أن ننسى كيف كانت القدس أم القيادات وسيدة البدايات وزينة النجمات. فأين منها رؤوسها وأين في عتمتها النار والبخور، وأين “حمّال” منصور؟ صمتكم جرم و”التقية” سماد للمفرطين. تصدير التهم، مهما كانت صحيحة، ملاذ للقاصرين وكتف صاغر للعاجزين. القدس صارت بنفسجة على صدر الزمن، فلتسألوا كشاعرها، “صعلوك القدس القديمة” فوزي البكري: “ماذا في بيت المقدس، غير الألم، وغير الفقر وغير الجوع/ ماذا في بيت المقدس، غير الأقصى، بيتًا لمساكين الأرض المحتلة مرفوع/ هل يسقط بيت المقدس؟ يا عار العرب، ويا خزي الإسلام، ويا حزن التاريخ المسموع!”.
فهل للقدس قيامة؟