في مطلع شهر يناير الماضي، اتصل بي صديق من لندن وأخبرني أن صديقة لعائلته، تسكن في بريطانيا، طلبت إليه التوجه إليّ لأساعدها في الاستفسار عن مصير والدها، الذي اختفت آثاره في غزة، بعد أن كانت الطائرات "الإسرائيلية" قد قصفت بيوتهم ودمرتها على من وما كان فيها.
ساد اعتقاد لديها، ولدى من بقي من أبناء عائلتها على قيد الحياة، بأن أباها الذي ناهز الخامسة والسبعين عاما قتل مع أخيه في البيت الذي كانا فيه ساعة قصفته الطائرات، وأن جثمانيهما دفنا تحت الردم، شأنهما شأن آلاف جثامين المواطنين الغزيين. إلا أن اهتمامها بمصير والدها أثير من جديد بعد ان أفاد بعض المواطنين الغزيين، بأنهم رأوا اباها على قيد الحياة وهو محتجز مع مئات المواطنين الغزيين لدى الجيش "الإسرائيلي"، لكنهم لم يضيفوا أية معلومات أخرى أو بينات تؤكد الخبر. كانت تلك المعلومات مبعثا لبارقة أمل عندها، وفي الوقت نفسه» سببا لقلق جديد؛ فوالدها مصاب بالسرطان وهو بحاجة لتناول جرعات من الدواء؛ إن لم يتناولها، فستصبح حياته في خطر.
قد يشعر البعض بأنني اتناول تفاصيل قصة فلسطينية «عادية» إذا ما وضعناها ضمن المشهد المأساوي الذي عاشه وما زال الفلسطينيون يعيشونه في قطاع غزة تحديدا، وكذلك في الضفة الغربية التي يواجه أهل مدنها وقراها ممارسات عناصر جيش الاحتلال القمعية واعتداءات ميليشيات المستوطنين الدموية، كما نقرأ ونسمع عنها يوميا. أقول «قد» وأنا على قناعة بأن الكثيرين في فلسطين وخارجها يعانون من عوارض حالة إدمان تجعلهم يتلقون تداعيات المشهد المأساوي بصورته العامة ويغفلون التفاصيل، أو إذا صحّ اللجوء في واقعنا إلى كتف المجاز والى ساعد الاستعارة، لقلنا: من كثرة المقابر الجماعية في غزة، فقدت هويات الضحايا علاقتها بالحدث، وصارت المقبرة هيكلا عظميا واحدا؛ وبعد أن فاضت أنهر الدم في شوارع غزة ومن على مرايا العبث، «سالت» مصائب الناس الأخرى وصارت مجرد خربشات على صفحات الحسرة والوجع.
سأركز على قضية الاعتقالات الوحشية التي تنفذ بحق آلاف المواطنين الفلسطينيين وما يعانونه من ممارسات غير مسبوقة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي" للمناطق الفلسطينية، حيث تقوم المؤسسات الفلسطينية المعنية، رغم كثرة المعوقات، برصد الاعتداءات والتجاوزات "الإسرائيلية"، وبإعداد ما أمكن من التقارير التوثيقية حولها.
نعلم أن حملة قمع الأسرى الفلسطينيين لم تبدأ بعيد السابع من أكتوبر الماضي؛ فحكومة نتنياهو شرعت بسياسة التضييق الخانق على الأسرى منذ توليها السلطة مباشرة، لكنها شددت هجماتها بعد السابع من أكتوبر، وصارت عمليات القمع والاعتداءات الجسدية العنيفة شبه يومية في السجون، ما أدى إلى إصابة عدد من الأسرى وإلى استشهاد بعضهم، كما حصل في حالة الشهيد ثائر أبو عصب الذي ارتقى داخل سجن النقب الصحراوي في شهر نوفمبر الماضي. وكما تبين من التقرير الذي وثق لشهادات بعض الأسرى، الذين كانوا مع الشهيد ثائر في الغرفة نفسها، وتعرضوا مثله للاعتداء الوحشي، فإن عناصر من وحدة تسمى «كيتر» تابعة لما يسمى «مصلحة السجون» دخلوا إلى الغرفة «وكانوا ملثمين ومزودين بالعصي الحديدية ومدججين بالدروع، وانهالوا على جميع من بالغرفة بالضرب المبرح، واستمروا بضرب جميع الأسرى حتى فقد بعضهم الوعي، والجميع كانوا ينزفون. وأصيب الشهيد ثائر ابو عصب بمعظم أنحاء جسمه، خاصة في منطقة الصدر والبطن، وبإصابة مباشرة برأسه. استمر هجوم أفراد الوحدة على الأسرى لمدة ربع ساعة، خرجوا بعدها، إلا أن الأسرى تفاجأوا بعودتهم بعد ثلاث دقائق لينهالوا مجددا بالضرب على الأسير ثائر أبو عصب، وكأنهم كانوا يريدون التأكد من موته. لقد تُرك الأسرى في الغرفة وهم غارقون بالدماء. أبلغ الأسرى السجانين أن الأسير ثائر لا يتحرك. بعد فحصه من قبل الممرضين تم نقله من الغرفة وتبين لاحقا أنه استشهد». لم ينجُ ثائر أبو عصب من حقد أفراد فرقة الموت، التي كادت عصيّهم الحديدية أن تودي كذلك بحياة الأسير نور القاضي، ابن مدينة البيرة، الذي أفرج عنه قبل عشرة أيام، بعد أن أمضى عاما في سجون الاحتلال أسيرا إداريا، وروى شهادته أمام «نادي الأسير الفلسطيني». جاء في بيان «نادي الأسير» أن نور القاضي كان أحد المعتقلين الذين تعرضوا لعمليات تعذيب وتنكيل وضرب مبرح من قبل أفراد وحدة «كيتر» في سجن النقب، وأن عناصر هذه الوحدة كانوا يغيرون على غرف المعتقلين بصحبة الكلاب البوليسية وكانوا يتعمدون ضرب الأسرى على الرأس والصدر، وكانوا يعرضون الأسرى لعمليات تفتيش وهم عراة. لقد قرأت شهادة نور القاضي وتخيلت كيف استشهد ثائر أبو عصب؛ فتفاصيل الاعتداء عليه، كما وردت في شهادته، رسمت عمليا معالم مسرح الجريمة، التي راح ضحيتها الأسير ثائر أبو عصب. يقول نور القاضي في أحد المقاطع: «أنا مريض منذ عشرة أعوام وقد أجريتُ عملية قلب مفتوح. ثاني يوم ضربوني؛ قلت لهم إني مريض وبحاجة لدواء وعلاج. فكانوا يزيدون الضرب عليّ، ويقولون لي: «موت». بعدها شددوا ضربهم، فكسروا ثلاثة أضلاع في صدري، ورضوض قوية في العمود الفقري. انفتح رأسي، انفتحت يدي، انكسر إصبعي، هجم عليّ الكلب، لما هجم عليّ السجان ليثبتني خبطني في رأسه، وهو لابس حديد ففتح جبيني. تركوني بعدها وطلعوا، أغمي عليّ، لما أغمي عليّ ضربوني لحد ما صحيت، كان مارق حوالي 25 دقيقة ضرب، بعدها طلعوا من عندي. لما طلعوا كنت أنا في النهاية».
لن أرهق القراء بتفاصيل هذه الشهادة المؤلمة، فهي مثل سائر شهادات الأسرى، تؤكد ان ما يجري داخل السجون من اعتداءات يستهدف لا حرمانهم من حقوقهم وسحب مكتسباتهم كحركة ناضلت وضحت من أجل تحقيقها فحسب، إنما بالأساس هي اعتداءات تستهدف حيواتهم وسلامة أجسادهم ونفسياتهم. نحن لا نعرف حقيقة ما يجري في هذه الأيام مع أسرى كثيرين، خاصة مع من اعتقلهم الجيش من غزة، فكثيرون من هؤلاء لم تدرج أسماؤهم على اللوائح الإسرائيلية الرسمية، فأسروا ونقلوا إلى أحد معسكرات الاعتقال، مثل معسكر «سديه تيمان» في الجنوب، وتركوا في ظروف يصعب على الخيال الإنساني الطبيعي تصورها. وهذا ما حصل مع الدكتور الغزي المفقود. وعدت صديقي إلياس بأن أسعى للاستفسار عن الدكتور والد صديقتهم الغزية لعلني مع قليل من الأمل وبعض الحظ أنجح بإخراج الحقيقة من تحت الحطام. بدأت اتصالاتي مع جميع العناوين التي لها علاقة بمسألة اعتقال الفلسطينيين، فكانت أجوبة جميعهم إنني أسال المستحيل؛ لكن بعضهم أرشدني كيف استمر في محاولتي. وبعد ثلاثة أسابيع أفادني أحد المجندين، بأن الدكتور الذي أسأل عنه على قيد الحياة، لكنه طلب مهلة كي يتأكد. نقلت البشرى للندن بحذر وطلبت منهم تأجيل الفرح حتى يتم تأكيد الخبر؛ وهذا ما فعلته بعد ثلاثة أيام. أخبرتهم بكل ما قيل لي وهو إن الدكتور في الأسر وهو مصنف كمحارب غير قانوني، ولا يحق له التواصل مع أية جهة. وأضفت انني لم اهتد بعد إلى مصير أخيه. تصورت كيف طار صديقي وصديقته للحظات، يفعلان ما يفعله أهل البلاد: يرقصان على غيمة تلاعبها الريح وينظران إلى السماء بقلق موجتين غزيتين.
في مطلع فبراير قرأ صديقي نبأ في صحيفة اسرائيلية يفيد بأنه تم الافراج عن 114 فلسطينيا من غزة كانوا محتجزين لدى إسرائيل. قام بإخباري بما قرأ، وتمنى أن يكون صديقه الدكتور بينهم. حاولت الاستفسار من مصدر النبأ عن أسماء من أفرج عنهم، لكن صديقي سبقني وبعث لي برسالة ينقل فيها عن صديقته، أن أباها قد أفرج عنه «وهو موجود عند أصدقاء له ليس بعيدا عن «كرم أبو سالم» لكن لا يوجد لديه وسيلة للاتصال بأحد، فأبلغ أحد معارفه أن يتصل بابنته.. والشخص الذي اتصل قال إن الدكتور لا يعرف شيئا عن أخيه». شعرت للحظة كيف يكون الفرح في فلسطين أحيانا ملفعا بكفن، وأحسست كأنني أقرأ فصلا من رواية خيالية. صحوت من عدمي بعد أقل من ساعة، حين أرسل لي صديقي من لندن رسالة أخرى كتب فيها: «آسف على الرسالة المتأخرة، فمن الواجب أن أبلغك بأن أخا الدكتور ليس على قيد الحياة؛ فقد نجح الدكتور قبل قليل بالاتصال بزوجته، التي كانت قد سافرت قبل الحرب لزيارة ابنتهما في كندا، وأبلغها أن أخاه قتل في قصف منزله، وقد شاهده مقطعا قبل اعتقاله». قرأت، فطار الفرح وبقي الكفن أمامي. أجبت صديقي بإرسال وجه عبوس من لغة الإيموجي. لم تسعفني لغتي ولا سحر بيانها وتمنيت لو كنت ممن يجيدون الحديث بلغة الكل ويبتعدون عن تهجئة حروف المآسي، أولئك الذين من كثرة القبور يرون فقط المقابر. تمنيت وتخيلت كيف كان فرح صديقتنا الغزية، كأفراح معظم الفلسطينيين، ملفعا بكفن عمها.