فلسطين أون لاين

​رحل قبل أن يكتمل ...

يقول الأديب غسان كنفاني " إن الانسان في نهاية الأمر قضية " , ولا بد من حلول عادلة لتلك القضايا العالقة ما بين الموت والحياة , إنها قضية الطفل الذي رحل باكراً أو بالأحرى سُرق عمره باكراً .

القضية الفلسطينية زخِمت بمراحلها التاريخية بقصص وأحداث عايشها أطفال هذا الشعب في مواجهة أسلحة المحتل, ومما لا شك فيه أن بصمةً سوداء لا يُستهان بها ولا تُنسى خلدها الطفل الفلسطيني في جبين ما يُدعى دولياً بـ " حقوق الطفل "، وكطفرة جينية خَلقت من معنى الطفولة معانٍ أخرى تعدت جملة من الأحلام والألعاب والدمى الملونة .

هنا في غزة على وجه التحديد ينتهي كل شيء قبل أوانه , يتراقص الموت بيننا باحثاً عن أجمل ما قد يَخلِقُ الله في رحم امرأة صابرة , فــ 30/3/2018 ذكرى يوم الأرض الفلسطيني , شهد امتداداً للتاريخ الذي بدأ عام 1976م ليحمل في ثناياه ألماً يتجدد في كل عام ويطل علينا ليُفَتِح فينا ندباً يأبى أن يلتئم , ولكن ألم هذا العام أتى على هيئة راحةِ طفل تتوسد كف أمه المكلومة , أكثر من عشرين طفلاً سقطت الإنسانية بكل مواثيقها أمامهم في مسيرات العودة السلمية حين هُدرت دماؤهم وأشلاؤهم أرضاً أمام دمويةِ العدو.

لم تكن المعاهدات الدولية والأوراق المكتظة بالتواقيع الرسمية وكلمات الشعراء ونصوص الكٌتاب كافية لأن تضمد الصَدع الذي اختلج قلب الطفل الفلسطيني .

في العادة يعيش الإنسان الطبيعي خمسين أو ستين عاماً يقضيها ما بين طفولة وشباب وشيخوخة , هنا في غزة لا يلبث الطفل فينا أن يصل ثمانية عشر عاماً حتى يبدأ شبح الموت بملاحقته .

يرحل الطفل الفلسطيني رث الرداء , هش العظام , هزيل البنية , فارغ المعدة ، خارجاً من مدرسته أو ذاهباً إليها يرتب طموحاته الجامحة ، و بين ذهابه و رجوعه من مدرسته التي جذرت لجوئه يصطدم الطفل بحائط الوطن العريض فيضرب الطفل بطفولته عرض حائط الوطن ويركض ينادي " أنا جاييكي يا فلسطين "، يذهب هنا وهناك في تلك المسيرات الغاضبة يبحث عن فلسطين , ينقب عن حدودها , فيعود إلينا كما سميناه " بطلاً " ، و في حين أن ملايين من الطلاب حول العالم في ذاك الوقت تنهي دروسها اليومية , هناك طفل في غزة يُشيَع شهيداً محارباً حمل عبء طريق التحرير المُهشم .

زُف البطل ... انتحب والداه , التقطنا صورة تذكارية لملامحه الغائبة على مقاعد الدراسة بجوار الأحياء ... ثم انتهى كل شيء باكراً.

رحل كما لم يرحل أحدٌ من قبل , رحل تاركاً حلماً بغطاء يستر قدميه العاريتيْن , وفخذُ الدجاج الذي يحبه مشوياً , وحصة الرياضيات التي هرب منها كثيراً ولكنه عاهد نفسه أن يحبها , وشِجار لم يكمله بعد مع أخيه الصغير , والتجوال حول العالم عبر قنوات التلفاز , ومسطرة " T" الهندسية التي حلم أن يحملها في الجامعة , ورحلة المدرسة التي سيزور فيها حديقةً ما ..

قُتل الحلم قبل أن يبدأ , كان في كفنه يرتجف من البرد وعلى شفتيه صرخة تحجرشت بالصدر كانت ستقول " وإني أحب الحياة ما استطعت إليها سبيلاً " , ودمعة تجمدت في العين أوقفت نبض بؤبئِهِ كانت تبحث عن صديقه المقرب الذي لم يحمِ ظهره .

الساعة الأولى من الموت صاخبة , المُحارب المُقاتل البطل المِغوار حمل كفيه نحو فرصة للنجاة غدرتها رصاصةٌ لا إنسانية ... وبعد الساعة الأولى تستيقظ الحقيقة في عين الأحِبة , ما كان بطلاً ولا محارباً , كان طفلاً يبحث عن الحياة في ركام الموت , ولو أنه لم يرحل باكراً لقال بملءِ صوته الخجول " ما زلت طفلاً ... أنقذوني " , ولكنه رحل قبل أن يكتمل .